خطوط نقدية حمراء
(1) الحضور التراثي العربي في أعمال "باولو كويللو"
د. ياسر منجي
نُشِرَت للمرّة الأولى بصفحة "شيء من الأدب" بجريدة "القاهرة"، التي تصدر عن وزارة الثقافة المصرية. يناير 2005.
يورد "بن حجة الحموي" عن "أبي علي المحسن التنوخي" ما ذكره له "أبو الربيع سليمان بن داود" عن رجل أتلف ماله:
"فرأيت ليلة في منامي كأن قائلاً يقول لي غناك بمصر" (1).
وذهب إلى مصر فلم يجد ما يعينه حتى قبض عليه "الطائف" (الشرطي) ظاناً إياه لصاً...
"فبطحني وضربني مقارع" (2).
فقص عليه قصته وما رآه في المنام فأجابه:
"ما رأيت أحمق منك، والله لقد رأيت منذ كذا وكذا سنة في النوم كأن رجلاً يقول لي: ببغداد في الشارع الفلاني في المحلة الفلانية.. فذكر داري واسمي.. وفيها بستان وفيه سدرة تحتها مدفون ثلاثون ألف دينار" (3).
ولم يلتفت الشرطي لهذا المنام. وعندما أطلقه ذهب ثانية نحو بغداد.
"فقلعت السدرة وأثرت مكانها فوجدت جراباً فيه ثلاثون ألف دينار" (4).
أي أن الرجل أخلص لمنامه فأوصله للكنز، في الوقت الذي اعتبر فيه الشرطي – الذي رأى نفس المنام – أن ذلك محض تخليط وأضغاث، مما أدى إلى استهانته به، ومن ثم إلى ضياع الكنز منه.
وفي قصة "الخيميائي" “The Alchemist“ للكاتب اللاتيني "باولو كويللو"، نقرأ في مفتتح القصة عن راع شاب يُدعى "سانتياجو"، يتكرر حلم بذاته في منامه، مما يدعوه لالتماس التفسير لدى عرافة غجرية حاكياً لها الآتي:
"- ظل الطفل يلهو مع الشياه فترة، ثم فجأة أخذ بيدي واقتادني حتى أهرام مصر.
سكت لحظة ليرى ما إذا كانت العجوز تعرف ما هي أهرام مصر، ولكنها ظلت على صمتها.
- ثم إنه هناك أمام أهرام مصر [ونطق الكلمتين الأخيرتين بوضوح تام ليتسنى للعجوز أن تفهم]، قال الصبي: لو جئت حتى هنا فستجد كنزاً مخبوءاً.
- وفي اللحظة التي كان يوشك فيها أن يدلني على موضع الكنز صحوت في كلتا المرتين) (5).
ويتوالى تدفق الأحداث التي يخوض خلالها "سانتياجو" غمار رحلته، مستهدياً بما ساقه إليه القدر من إرشادات تمثلت في تعاليم شخصية غامضة – من وجهة نظري هي معادل تشخيصي لمركب الإله/ الأب/ الوعي الأسمى – والذي يلفت نظره إلى وجوب الاتكاء كلياً على طاقة الحدس، مسترشداً بالعلامات التي خطتها يد القدر في صحيفة الكون، محدِّدة مساراً لكل منا تتحقق من خلاله أقصى تجلياته الوجودية إذا أخلص له واتبعه بيقين محض.
وفي نهاية الرحلة التي تسفر عن انكشاف السرمديات وانفتاح مغاليق المطلق والغامض أمام ناظرَي "سانتياجو"، وبعد أن يصل فعلاً إلى الأهرام، إذا به يقع في أسر عصابة من قطاع الطرق تساومه بحياته على الكنز المخبوء، فيحفر "سانتياجو" الأرض دون جدوى، بعد أن انهالوا عليه ضرباً وقتاً طويلاً حتى ظهرت أول أشعة الشمس وحتى أحس بدنو أجله.
"قال الزعيم لرفاقه: فلننصرف من هنا.
لكنه رجع إلى الشاب وقال له:
- لن تموت. ستعيش وستتعلم أن الإنسان يجب ألا يكون غبياً إلى هذا الحد. فمنذ قرابة عامين، وهنا بالضبط حيث ترقد أنت الآن، حلمت حلماً وتكرر. رأيت أنني يجب أن أذهب إلى أسبانيا وأن أفتش في الريف عن كنيسة محطمة، كثيراً ما يذهب الرعاة للمبيت فيها مع أغنامهم وتنمو في موضع هيكلها شجرة جميز، وهناك سأجد كنزاً مطموراً. لكني لست من الغباء بحيث أعبر الصحراء لأنني رأيت الحلم نفسه مرتين." (6).
وكانت الكنيسة المذكورة هي ذاتها التي كان يبيت بها "سانتياجو" في موطنه قبل الشروع في رحلته. ومن ثم يعود أدراجه إلى موطنه الأصلي ليحفر في الكنيسة.......
".. واستأنف الحفر. وبعد نصف ساعة اصطدم الجاروف بشيء صلب. وبعد ساعة كان أمامه صندوق ممتلئ حتى حافته بعملات ذهبية أسبانية قديمة، وكانت هناك أيضاً أحجار كريمة، وأقنعة ذهبية مرشوق فيها ريش أبيض وأحمر وتماثيل حجرية صغيرة مرصعة بالماس..." (7).
وبإجراء شئ من التفكيك للنسق البنيوي للقصة العربية ورواية "باولو كويللو" نخرج بحصيلة تتمثل في الآتي:
1- كلا البطلين يتكرر بمنامهما حلم يلح على وجود كنز ما ينتظرهما لاحتيازه.
2- الحصول على الكنز في القصتين يستلزم خوض رحلة غير محددة المعالم.
3- كلتا الرحلتين إلى مصر تحديداً.
4- عند الوصول لموطن الكنز يقع البطلان - العربي التراثي واللاتيني المحدث - في قبضة غاشمة، إحداهما لشرطي والأخرى لعصابة من قطاع الطرق.
5- كلتا القبضتين توقعان عقاباً بدنياً مبرحاً بالبطلين.
6- يسفر تفتيش موطن الكنز في القصتين عن لا شئ.
7- يسخر الشرطي في القصة العربية من سذاجة البطل وإخلاصه الطفولي لحلمه، وهو نفس رد فعل زعيم العصابة تجاه "سانتياجو".
8- تقود السخرية بطريقة عرَضية في كلتا القصتين إلى بوح الشرطي/ رئيس العصابة بحلم مماثل يتكرر بشكل مماثل.
9- افتخار الشرطي وزعيم العصابة على البطلين بأنهما أكثر نضجاً منهما، ومن ثم فهما لا يلتفتان مثلهما إلى أمثال هذه الترهات.
10- ينتبه كلا البطلين إلى أن موطن الكنز في روايتي الشرطي وزعيم العصابة هو ذاته موطنهما الأصلي الذي خرجا منه سعياً وراء كنزهما/ الحلم.
11- تكون هذه المفارقة بمثابة إشارة التأكيد التي تلح على وعي البطلين كي يختتما فعل الرحلة في عودة دائرية إلى نقطتي انطلاقهما.
12- تسفر العودة المحملة بخبرات الرحلة/ الوعي الجديد إلى العثور على الكنز وتحقق فعل النبوءة.
الغريب أن نفس التيمة المحركة لفعل السرد في العملين – العربي التراثي واللاتيني الحديث – تتكرر على نسق غيبي يمعن في تفعيل الكيانات السفلية الحارسة لعفاريت الكنوز، وذلك في العمل العربي الأشهر "ألف ليلة وليلة"، فنقرأ في حكاية "علي المصري والكنز في بغداد" – وهي الحكاية التي تستغرق الليلتين 431 و432 من ليالي شهرزاد – عن رجل يائس يرحل إلى بغداد على أثر كارثة، فيلتقي بمؤجر يعرض عليه المبيت في أحد البيوت التي يهيمن عليها، ويحذره أن أحدها مسكون بعفريت قاتل لم ينج من بطشه أحد من الذين باتوا ليلة واحدة فيه، فكانت هي الأخيرة في أعمارهم، فيلح عليه "علي" أن يكون هذا البيت - الذي أطلقوا عليه اسم "بيت الأموات" – هو مستقره في مبيته، وفي نيته أن يكون ذلك سبباً في موته ومن ثم خلاصه من عذاب نفسه، وخلال الليل يفاجأ بصوت يدعوه باسمه، فيجيب بنعم، فينزل إليه العفريت ويبدأ في فتح كنز عظيم كان (مرصوداً) على اسم "علي المصري"، فلا يفتح لغيره، ولما كان المساكين من الذين لقوا حتفهم في البيت قبلا لا يعلمون بقصة الرصد، وحتى لو علموا فلن يجديهم ذلك شيئاً، لكون أسمائهم مغايرة للمطلوب لفعل الانفراج والانفتاح والفكاك من الأسر لكل من صاحب الكنز والبيت المسكون والعفريت المسخر كالسجين للحراسة، لذا فقد كان على العفريت المسكين أن يظل حارساً خشناً لا يرحم حتى وقت مجيء صاحب الرصد.
وبرغم أن قصة الليالي هنا لا تمعن في التطابق مع "خيميائي" "باولو كويللو" كما فعلت أختها التي رواها "ابن حجة" عن "التنوخي"، والتي حللناها سلفاً، فإن قصة الليالي تنفرد هنا بفضاء خاص، يجعلها قادرة على التماهي مع واحدة من أظهر وأشهر التيمات التي يغزل "باولو كويللو" بمقتضاها أعماله، وسياقاً من أهم السياقات المحركة للسرد في غالب قصصه، ألا وهو مفهوم "المكتوب" بمرجعيته الشرقية العربية.
فالعفريت هنا لا يمثل شراً محضاً في ذاته، بل هو محض أداة حارسة، يستدعي دورها الفريد الغريب أن تكون ممعنة في التطابق مع الهدف الأساسي لرصد الكنز - المكتوب والمقسوم لشخص بعينه - فلا فكاك هنا من أسر "المكتوب" لجميع الأطراف؛ فالعفريت رهين محبسه لا فكاك له إلا بتسليم الأمانة لصاحبها، ومن ثم استحقاقه لإطلاق سراحه، وفي محبسه هذا هو رهين "المكتوب" الذي شاءت إرادته أن يكون هذا الدور منوطاً بالعفريت.
والقتلى الذين لقوا حتفهم في المنزل المسكون هم أيضاً ضحايا "المكتوب"، الذي قد تبدوا إرادته عبثية في تجريعهم غصة الموت دون جريرة ارتكبوا ذنبها، ولكن رغم براءتهم إلا أن العقلية العربية الشرقية التي صاغت القصة، والمتلقي العربي الشرقي الذي يستقبلها على السواء، يتواطآن ضِمناً على وجوب أن يلقى هؤلاء مصرعهم، ليسير القص في مجراه وينفتح الكنز في النهاية مسفراً عن تفكيك كافة العقد التي تراكمت في بداية الحكي، والقتلى هنا بهذا المفهوم يتم تعويضهم على مستوى التعاطف الشعوري بوصفهم كيانات شهيدة "المكتوب".
و"علي المصري" أيضاً هو مثال نموذجي لقدرة "المكتوب" على صياغة مصير الفرد من النقيض إلى النقيض، دون أن يبدو ذلك شذوذاً على القاعدة التي تغلف بدورها مجمل الوجود الاجتماعي الشرقي.
تتكرر كلمة "مكتوب" في أعمال "باولو كويللو" على عدة مستويات، سواء بوصفها مفهوماً أساسياً قابعاً خلف مسار الأحداث، محركاً إياها طوال استمرار فعل القص، أو حتى على المستوى الظاهري الذي يتبدى في كتابة الكلمة أو نطقها بلفظها العربي على لسان أبطال قصصه، أو تتصاعد إلى حدودها القصوى لتصير عنواناً على عمل كامل من أعمال الكاتب نفسه.
"و أخيراً قال التاجر:
- مكتوب .
- ما معنى هذه الكلمة؟
- لابد وأن تكون قد وُلِدت عربياً لكي تفهمها، ترجمتها لا تعني شيئاً. تعني أنه شئ مدون.
وبينما كان يطفئ جمر النارجيلة قال للشاب إنه يستطيع أن يبدأ في تقديم الشاي للزبائن في أكواب الكريستال.
في بعض الأحيان يكون من المستحيل أن تسيطر على نهر الحياة ." (8).
"ولكن هذا الحدس الذي واتاه بعث في نفسه القلق. أيكون إذن في طريقه لأن يتعلم بدوره تلك اللغة الكونية الشهيرة، التي تعرف ماضي البشر جميعا وحاضرهم؟ كانت أمه تقول دائما "حدسي"، وبدأ يفهم أن لحظات الحدس هي غوص سريع للروح في تيار الحياة الكوني، الذي يترابط في طياته تاريخ البشر جميعاً بطريقة توحد الكل، بحيث نستطيع أن نعرف كل شئ لأن كل شئ مدون.
- مكتوب!
قالها وهو يفكر في تاجر الكريستال ." (9).
وبعد، فإن استخدامي للفظ "انتحال" Plagiarism، هو من قبيل الاستخدام الأدبي، الذي يتعدى المعنى الاصطلاحي إلى فضاءات أخرى إيمائية، فأنا لا أعني بالطبع أن "باولو كويللو" قد انتحل القصة العربية، لأن ذلك يتعارض حتى مع المفهوم العلمي لمصطلح الانتحال كما هو متعارف عليه في حقوق الملكية الفكرية، وإنما قصدت أن أعمد إلى نوع من الإيقاظ الصاخب المشاكس، الذي يدعو إلى قراءة الإبداع المطروح على الساحة الدولية قراءة تحليلية رأسية، تسبر غور التاريخ البشري على اتساع ثقافاته، وتعي مواطن الكنوز المعرفية التي أفرزتها قرائح الشعوب، وتنتبه إلى ما تم من إعادة تدوير وتمثل واستلهام لهذه الروائع، حتى لا تغشى عيوننا تحت تأثير الكاريزما الطاغية للمبدعين الجدد، أو نظن أن إبداعهم من واردات سديم معرفي مجهول، فيوقعنا ذلك في أسر نمط الاستهلاك الثقافي الأفقي، الذي لا يتعدى دور المبهور السلبي القانع بتلقي ما يستجد.
الهدف الثاني الذي أحببت أن أنال شرفه هو أن كاتباً في مثل قامة "باولو كويللو" من شأن انتاجه الأدبي أن يستدعي جدلاً نقدياً وتذوقياً واسع النطاق – وهو ولا شك من سمات الأدب المتميز، خاصة إذا كان من النوع المغاير لما هو معتاد – لذلك فقد أحببت ورود عدة سياقات نقدية، تستدعي ردود أفعال قد يكون لي فيها شرف البداية في إلقاء الحجر الأول لتحريك سطح بحيرتها.
كما أزعم أن مثل هذه البداية قد تلفت النظر إلى بذل جهود أخرى، في سبيل دراسة ظواهر الاستلهام والتناص والتوازي والتماثل وإعادة الصياغة في الإنتاج الأدبي عبر تاريخ الأدب، وأشير هنا إلى جملة لافتة في هذا الصدد للأديب المصري "بهاء طاهر"، في سياق تقديمه لترجمته الخاصة لرواية "الخيميائي"، حيث يقول ما نصه:
"ثم إنني لم أنته أيضاً
فأنا لا أستطيع أن أمنع نفسي في الختام من الإشارة – بكل تواضع – إلى أني قبل نشر الخيميائي بثلاث سنوات، نشرت قصة عنوانها "أنا الملك جئت" لم تترجم إلى أي لغة، وهي أيضاً رحلة بحث عن الذات في الصحراء، فكيف اتفق أن توجد – دون معرفة ولا لقاء – مواقف متطابقة في العملين، وفي بعض الأحيان نفس العبارات؟
سؤال أطرحه على روح العالم" (10).
ياسر منجي
القاهرة في 25/1/2005
الهوامش
1- ابن حجة الحموي ، ثمرات الأوراق في المحاضرات ، تحقيق محمد مفيد قميحة ، بيروت ، دار الكتب العلمية ، 1983 ، ص 310 .
2- نفس الموضع .
3- نفس الموضع .
4- نفس الموضع .
5- باولو كويللو ، ساحر الصحراء ، ترجمة بهاء طاهر ، القاهرة ، مؤسسة دار الهلال ، العدد 571 ، ص 22 و 23 .
6- المرجع السابق ، ص 144 .
7- المرجع السابق ، ص 145 .
8- المرجع السابق ، ص 58 .
9- المرجع السابق ، ص 71 .
10- المرجع السابق ، ص 12 .
_____________________________________________________
No comments:
Post a Comment