سيرة منسية من ذاكرة الفن المصري

Sunday, January 30, 2005

خطوط نقدية حمراء2

خطوط نقدية حمراء
(2) تجليات المعرفة الباطنية في [خيميائي] "باولو كويلهو "
الأداة السحرية كمحرك لفعل الإشراق
د. ياسر منجي

______________________________________
(أ‌) – مفتتح الدائرة: من الحلم إلى الحجرين عبر الساحرة والملك .
الراصد لسيرة الأديب اللاتيني "باولو كويلهو" وتقلباته الحياتية خلال مشواره السابق على تفرغه التام للإبداع الروائي، لابد وأن تستوقفه ملاحظة انخراط الأديب المذكور في نشاطات تتعلق بممارسة السحر ومحاولة استرفاد القوى الغيبية، عن طريق انضمامه لإحدى الجماعات المشتغلة بهذا المجال في إنجلترا .
والحقيقة أن هذا التوجه له ما يبرره على مستويين :
الأول: تلك الصبغة النفسية التي تسود كنمط عام يميز سلوك المبدعين، بصفة عامة، في انكبابهم الزائد على سبر أغوار الخفي واقتفائه والمَتحح من رموزه ومَجالِيه في نواتج إبداعاتهم الخاصة .
الثاني: هذه التركيبة شديدة الخصوصية التي تطبع بمَيْسِمها نفسية "باولو كويلهو"، والتي أفرزت تناقضاً على المستوى الظاهري لسلوكه الخاص، الذي يصفه بنفسه على أنه: "ربما حار أهله بسلوكه غير المعتاد، نصف خجول، نصف استعراضي، ورغبته في أن يكون "فناناً"، شئ اعتبره كل فرد في عائلته وصفة تامة للانتهاء إلى منبوذ اجتماعي أو الموت بؤساً) (1) .
وبرغم وقوعه فريسة للأزمات النفسية، مما استدعى علاجه في "مستشفى الدكتور إيراس في ريو دي جانيرو" لثلاث مرات متعاقبة خلال الأعوام 1965، 1966، 1967 على التوالي، فإن أديبنا فيما يبدو كان أصلب عوداً من المتوقع، بل ومقاتلاً من الدرجة الأولى، حيث لم تكِلّ يداه من الطرق على أبواب المجهول الكوني، علها تجود بما يبل صدى نفسه الحائرة، فكان أن انضم كما سبق إلى إحدى الجمعيات الإنجليزية المشتغلة بفنون السحر، منتمياً في الوقت نفسه إلى جماعات "الهيبيز"، ثم منتهياً إلى مؤمن كاثوليكي متفرغ لإبداعاته الأدبية .
هذا الزخم من الخبرة الحياتية، مضافاً إليه عقلية طُلعة منفتحة على ثقافات العالم، جعلت من مفردات العالم الغيبي في بعده السحري أدوات مِطواعة في متناول قلم "باولو كويلهو"، مفجرة سياقات جمالية ومعرفية تُحيل إلى فضاء الأسطورة والخرافة والحكمة القديمة، مما يثير عبقاً دسماً لا يخطئه المتذوق لفن "كويلهو " .
ًإلا أنني في طرحي هذا أسمح لنفسي بالذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك، فأنا أزعم أن هذه المفردات الغيبية – خاصةً ما كان منها منتميا إلى فضاء السحر بمعناه الطقسي – تلعب دوراً أساسياً بوصفها دوافع أولية محركة لفعل السرد في أعمال "كويلهو"، بل ومطورة لذات الفعل، مما يسمح بإمكانية استخلاص نسق بنائي كامل، يتحكم في تطور السرد وتتابع الحدث ونمو الشخصيات .
وكنموذج تطبيقي فقد آثرت أن أنطلق من النص الشهير [الخيميائي
 ] The Alchemist
 وذلك لعدة أسباب: أولها وأظهرها ارتباط النص في نسقه الحكائي بشخصية الخيميائي/ السيميائي. ثانيها إسهاب "كويلهو" في استرفاد الممارسات السحرية والسيميائية بمحمولاتها المادية والمعرفية، مستعيناً بمحورية المعرفة السيميائية وصياغتها لعوالم أبطال النص .
وربما يكون من المنطق أن نبدأ بمدخل ذي صلة بمفهوم السيمياء كما يفهمها المعنيون بالغيبيات، وكما صاغ "كويلهو" نصه على هدي هذا المفهوم :
( تعني كلمة "شم" أو "كم" اللون الأسود في اللغة المصرية القديمة، ولأن مصر أرضها سوداء، فقد جرت العادة على استعمال الكلمة عند وصف مصر. ويذهب كثير من العلماء إلى أن مصر مهد الكيمياء، ولهذا أُطلقت الكلمة اشتقاقاً من كلمة "كم" أونسبةً إليها. ويتبع رأي آخر ما كتبه " تزوسيموس
" Zosimus
 ، وهو كاتب من "بانوبوليس" عاش في القرن الرابع الميلادي، ويقول الكاتب المذكور إن مخترع الكيمياء كان رجلاً يدعى "شيمس " Chemes
 وأنه ألف كتاباً أسماه "شما" أو "كما" منذ عهد سحيق، ساعدته فيه بنات الناس اللائى تزاوجن من الملائكة الذين هووا ) (2) .
( وكانت صناعة الكيمياء قديماً تقوم على أساسين: البحث عن شجرة الحياة أو شجرة المعرفة، وقد مزجوهما في شجرة واحدة، ثم حجر الفلاسفة ) (3) .
تلك الإحالة إلى المنشأ المصري للكيمياء القديمة "السيمياء"، وهذا الحصر في سعي علم قديم إلى حيازة منبعي الخلود والثروة – شجرة الحياة وحجر الفلاسفة – يجدان صداهما في دوافع الرحلة التي خاضها الراعي الشاب "سانتياجو" بطل [الخيميائي]، والتي بشروعه فيها فإن فعل السرد يبدأ في الانفجار، مفتتحاً دائرة عَودها على بدئها في ذات نقطة الانطلاق – مدينته الوطن – ولكن شتان ما بين البدء و العودة؛ فبدء الرحلة يتم والبطل لما يتفتح وعيه بعد، فهو ما زال في طوره الغفل، فما أشبهه بالمادة الغفل لمعدن اعتيادي يوشك أن ينصهر في بوتقة خيميائي محنك، يروضه عبر سلسلة من الأحوال والأفعال حتى تتوهج طينته وتتخلص من خَبَثها وتصل إلى فورانها الأقصى، فما يعتَم أن يلقي إليها بنفحة محسوبة من سر حجر الفلاسفة، فتشهق الروح في غمرة المشاهدة، ويتسلخ الفؤاد عن طوره الغشيم إلى كينونته العارفة بالفعل، بعد أن كانت قيد المعرفة بالإمكان .
إلا أن "كويلهو" لا يقنع فقط بالإطار المعرفي الدال والموحي لنسق الرحلة/ الطواف في الحج/ المعرفة الباطنية الذوقية/ التحول الخيميائي من الخبيث إلى النفيس، لكنه وبقوة يشرع في اتخاذ تدابير إجرائية، تضمن دوام واستمرار فعلَي التدفق/ التطور لكل من الشخوص و الأحداث على حد سواء، وهو ما يمكن تتبعه فيما يلي :
1- إدراك الراعي الشاب – على المستوى الحدسي – أن وعيه ما زال مدرجاً في أكفان الغفلة، هذا الإدراك يأتي مشفوعاً بنزوع لاستكناه الدلالة السحرية للأحلام، كعامل للتفسير والإيعاز بالفعل معاً، وهو ما تسوقه الجمل الدالة: (كانت العتمة لا تزال سائدة عندما استيقظ، تطلع إلى أعلى ورأى من خلال السقف نصف المحطم نجوماً تتلألأ. وفكر لنفسه: "كنت أود أن أنام فترة أطول" كان قد عاوده نفس الحلم الذي رآه في الأسبوع السابق، ومرة أخرى استيقظ قبل نهاية الحلم ) (4) .
(وبدأ الشاب يدهش للأفكار التي تنتابه، واكتشف أنها غريبة. ربما كانت الكنيسة التي تنمو في داخلها شجرة الجميز مسكونة بالأشباح . أيكون هذا هو السبب في أنه قد رأى ذلك الحلم نفسه مرة أخرى ) (5) .
أتوقف هنا للحظة عند دلالة رمز الشجرة النابتة فوق هيكل الكنيسة، وما يتضمنه من مزاوجة بين شجرة الخطيئة المسيحية، وهي ذات الشجرة التي تتخذ مظهراً معرفياً وسرمدياً في المفهوم الخيميائي، والتي بعد أن يتم تفتح الوعي في ختام رحلة "سانتياجو" تكون هي ذاتها مناط الرحلة ومخبأ الكنز .
ذات الكنز الذي اختتم فعل القص – والمكون من عملات ذهبية أسبانية قديمة، وأقنعة ذهبية توحي بغزوة أسبانية لإحدى حضارات أمريكا الوسطى – يحيل إلى بداية القصة حين يحكي الفتى كيف بدأ كراعٍ: ( لم يضف الأب شيئاً إلى ما قاله، وفي اليوم التالي أعطى ابنه صندوقاً يضم ثلاث عملات ذهبية أسبانية قديمة. قال لولده: هي عملات وجدتها ذات يوم في أحد الحقول) (6) . ها نحن أولاء أما دائرة أخرى تبتدئ بذهب من نفس نوعية الذهب الذي تختتم به، الذهب الذي صاغ "سانتياجو" راعياً، هو ذاته الذي توج نجاحاته طوّافاً في الآفاق ومطمئناً بالمعرفة، وهو ذاته المعدن الذي ينتظم جهود الخيميائيين في سعيهم لإتقان حرفة [التحولات]. ثم تأتي هذه الإحالة العرضية إلى مصدر الذهب في كل من عطية الأب ولقية الكنز، فكلاهما يحيل إلى حضارات أمريكا الوسطى التي ألهبت خيال الفاتح الأسباني "كورتيز" لغزو "مونتيزوما" في عقر ما تبقى من مجد مهيض، لنهب ذهب حضارات السحر والأسطورة، حضارات الضحايا البشرية والثعبان الريشي، حضارات "إنكا"، و"أزتك"، و"مايا " .
هذا الوعي الحدسي الذي يدغدغ رغبة الرحلة في نفس "سانتياجو" كان من الطبيعي أن ينتهي إلى محض خاطرٍ من الخواطر التي تجوس بخيالات الشباب المبكر، ما لم يعمل "كويلهو" على تطويره إلى حيز الاستشراف :
2- و ذلك بدفعه إلى سياق القصة، بشخصية ذات صلة بعين الوجود الغيبي، ممثلة في عجوز غجرية قارئة للكف، تكفل هي الأخرى استمرار النسق الدائري للأفعال؛ فهي تظهر في بداية القصة بوصفها مفسرة للحلم ومحرضة على الإخلاص للرؤيا، وتظل كامنة في الوعي حتى تطل برأسها مرة أخرى في مختتم الدائرة، مطالبةً بحصتها الضمنية في كنز "سانتياجو". إن هويتها السحرية تطفر عبر المونولوج الذي يسوقه "سانتياجو" في جلسته قبالتها ليحكي حلمه: (وكانت الشائعة الرائجة أن الغجري شخص يقضي حياته في خداع البشر، وقيل أيضاً أن بينهم وبين الشيطان عهداً) (7) .
إن العجوز في ظلال هذا المفهوم تعمل في اتجاهين متعاكسين: فهي من جهة عامل مثير للفضول بِوَكزِه للوعي في اتجاه الحلم، ومن جهة أخرى هي عامل مثبط، نظراً لسوء السمعة اللصيقة بها. هذا التعارض يلقي بالتبعة كاملة على الاختيار الحر للشخصية المنوطة بالصراع – "سانتياجو" – وفي ذات الوقت يدفع بالبطل إلى معاناة إدراكه لإمكانية تطوير الذات، بخوض رحلة مجهولة المعالم .
3- ثم يعمق "كويلهو" من الدلالة السحرية في اختياره لوجهة الرحلة – أهرام مصر – بكل ما تمثله مصر وأهرامها من تداعيات سحرية وغيبية في العقلية الأوربية، ترتبط بسحرة مصر القديمة والتراث الغيبي الذي يحوم حول علم الهرميات
 Pyramidology
 . ولكي يحافظ "كويلهو" على شحنة الغموض المفترضة في مثل هذه الإحالة، فإنه لم يتطرق طوال تدفق السرد في الرحلة إلى استقصاء العنصر المكاني بتفصيلاته، فظَل المكان بمثابة حضور لفظي لا يتعدى ذكر الاسم – مصر، الأهرام، أهرام مصر – فالمراد هنا هو الإيعاز لا التقرير .
4- ثم ما يلبث عامل التحريض أن يتخذ تحققه الأقصى في الظهور المفاجئ للشيخ الغريب العربي، والذي يواصل طوال استمرار السرد اقتسام ملامحه وسماته مع شخصيات أخرى – بائع الحلوى والخيميائي – مواصلاً دوره التحريضي والإرشادي لضمان اكتمال الدائرة ومن ثم اكتمال وعي الشخصية واكتمال التفاعل من أجل الترقي. في البداية تعمل هذه الشخصية من خلال عامل تشكيك في المسلمات الاعتيادية التي اصطلح معظم البشر عليها في سياق علاقاتهم بمفاهيم كتبهم السماوية. فغالب الناس يمارسون كسلاً فكرياً بشكل لا يسمح حتى بالنظر من زوايا مغايرة، مما انعكس بالسلب على الشروح الخاصة بالكتب المقدسة، والتي تصر في غالبها على تقديم صور من الجبر والمصائر المقررة سلفاً نمُقصيةً عامل الإرادة للأبد، مما يكرس للقدرية والتواكل، وهنا يظهر المفهوم المغاير للسحر في بُعده الإجرائي (السحر قائم على ثقة الإنسان بأنه يستطيع السيطرة على الطبيعة مباشرةً، إذا عرف فقط القوانين السحرية التي تحكمها، هو في هذا قريب من العلم. الدين والاعتراف بالعجز الإنساني في بعض الأمور، يرفع الإنسان فوق المستوى السحري، وفيما بعد يحتفظ باستقلاله جنباً إلى جنب مع العلم الذي انهزم أمامه السحر) (8). يجد هذا المفهوم تحققه فيما يلي: (تفحص العجوز الكتاب من جميع جوانبه كما لو كان أعجوبة وهو يقول: هه هذا كتاب مهم ولكنه ممل للغاية... واصل العجوز حديثه: هو كتاب يتكلم عن الأشياء نفسها التي تكاد تتكلم عنها كل الكتب الأخرى، أي عن عجز البشر عن أن يختاروا مصائرهم بأنفسهم، وفي النهاية يحاول أن يقنعك بأكبر كذبة في العالم. سأله الشاب مدهوشاً: وما هي إذن أكبر كذبة في العالم؟ - إليك هي: أننا في لحظة معينة من عمرنا نفقد السيطرة على حياتنا، ومن ثم يتحكم فيها القدر. تلك هي أكبر كذبة في العالم) (9). وكأن المفهوم الذي يقدمه "كويللو" هنا لفعل السحر لا يتجاوز مفهوم الدين، ولكن في كيانه الخالص المتخلص من إسقاطات البشر لمفاهيمهم القاصرة عنه، والتي يحاولون فرضها على غيرهم بدعوى الوصاية والهيمنة. كما يأتي هنا مفهوم دقيق ملتبس للوهلة الأولى، هو ذلك المتمثل في وجوب اعتماد المرء على إرادته الخاصة لتحقيق "أسطورته الذاتية" من جهة، ومن جهة أخرى في وجوب اتباع المرء للعلامات، وإخلاصه لحدسه دون تردد لنيل خلاصة ما خطته المقادير. إلا أن هذا الالتباس لا يلبث أن ينفك بالرجوع إلى التعريف السابق للسحر؛ فالمرء بإدراكه لقوانين الكون الباطنية يلقي بنفسه في خضمها، غير هياب من النزال ويخوض لُجّتها بكل تقلباتها، واثقاً من النتائج المقدرة سلفاً ولكنه في ذات الوقت يكون مزاولا لفعل إرادي، دفع به لاتخاذ القرار الذي أحجم عنه الكثيرون، الذين فقدوا من ثم ما كان من الممكن أن ينالوه من خارطة القدر – بائع الفشار كمثال – وبذلك ندرك الالتباس في لفظة "مكتوب"، التي يجب أن تكون قد وُلدْتَ عربياً لكي تدرك مغزاها. هذا التشابك يتعمق من خلال وصف شخصية الشيخ نفسها، والتي تحمل في طياتها ذات التناقض والتنوع والالتباس. فهو رث الهيئة الخارجية إلا أنه يرتدي درعاً من الذهب السميك أسفل ملابسه الرثة، وهو عربي الهيئة إلا أنه يصف نفسه بأنه "ملك سالم"، في إحالة صريحة لمدينة " سالم
" Salem
 الإنجليزية التي تعج بالساحرات وقرناء الشيطان في التراث الشعبي الإنجليزي، الذي انتقل إلى صياغات السينما العالمية. وهو يعلم عن الشاب ما جعله يتخذ قراره النهائي باعتزال رعي الغنم، استعداداً لخوض الرحلة، وفي ذات الوقت لا تمنعه حيازته للعلم والمال – الدرع الذهبي والمعرفة/ حجر الفلاسفة وشجرة المعرفة – من طلب نسبة العُشر في خراف الراعي كأجر للمساعدة .
5- ولكي يسوق "كويلهو" مزاوجته ما بين الدين والسحر إلى تحققها الأقصى، يورد رمزاً تتحقق فيه المعضلة التي تبدو استحالتها للوهلة الأولى؛ ألا وهو الدرع الذهبي الذي يرتديه الشيخ (كان العجوز يلبس درعاً من الذهب السميك المرصع كله بالأحجار الكريمة ... انتزع الشيخ من درعه حجراً أبيض وآخر أسود كانا في وسط الدرع، وقدمهما للشاب قائلاً: - خذ، هذان الحجران يسميان "أوريم" و" توميم"، الأسود يعني "نعم" والأبيض يعني "لا". عندما لا تصل أنت إلى الاستدلال بالعلامات فسوف يفيدان، ولكن اطرح عليهما دائما أسئلة محددة، واسعَ بوجه عام لأن تتخذ قراراتك بنفسك) (10). هنا مرة أخرى مزيج من اتباع العلامات واتخاذ القرارات، مزيج من السحر والدين، يحيلنا مباشرة إلى نظام العرافة الديني المزاول بواسطة كهنة اليهود عن طريق "درع هارون"، ففي "سِفر الخروج" نقرأ : (وتصنع صدرة قضاء. صنعة حائك حاذق كصنعة الرداء تصنعها. من ذهب وأسمانجوني وأرجوان وقرمز وبوص مبروم تصنعها. تكون مربعة مثنية طولها شبر وعرضها شبر. وترصع فيها ترصيع أحجار أربعة صفوف حجارة. صف عقيق أحمر وياقوت أصفر وزمرد الصف الأول. والصف الثاني بهرمان وياقوت أزرق وعقيق أبيض. والصف الثالث عين الهر ويشم وجمشت. والصف الرابع زبرجد وجزع ويشب. تكون مطوقة بذهب في ترصيعها. وتكون الحجارة على أسماء بني إسرائيل اثني عشر على أسمائهم. كنقش الخاتم على كل واحد على اسمه تكون للإثنى عشر سبطاً. وتصنع على الصدرة سلاسل مجدولة صنعة الضفر من ذهب نقي. وتصنع على الصدرة حلقتين من ذهب. وتجعل الحلقتين على طرفي الصدرة. وتجعل ضفيرتي الذهب في الحلقتين على طرفي الصدرة. وتجعل طرفي الضفيرتين الآخرين في الطوقين. وتجعلهما على كتفي الرداء إلى قدامه. وتصنع حلقتين من ذهب وتضعهما على طرفي الصدرة على حاشيتها التي إلى جهة الرداء من داخل. وتصنع حلقتين من ذهب. وتجعلهما على كتفي الرداء من أسفل قدامه عند وصله من فوق زنار الرداء. ويربطون الصدرة بحلقتين إلى حلقتي الرداء بخيط من أسمانجوني لتكون على زنار الرداء. ولا تنزع الصدرة عن الرداء . فيحمل هرون أسماء بني إسرائيل في صدرة القضاء على قلبه عند دخوله إلى القدس للتذكار أمام الرب دائماً. وتجعل في صدرة القضاء الأوريم والتميم لتكون على قلب هرون عند دخوله أمام الرب. فيحمل هرون قضاء بني إسرائيل على قلبه أمام الرب دائماً) (11). نحن هنا أما نفس "درع هارون" الذهبي بنفس ما يحتويه من حجري "أوريم" و"توميم". (وتعني كلمتي الأوريم والتميم، الأنوار و الكمال، إشارةً إلى نور الله سبحانه وتعالى وكماله اللذين يتجليان في الإرشاد الإلهي حين القرعة) (12). وتجدر الإشارة إلى أن الربط الأدبي بين التحولات الخيميائية و"درع هارون" في رائعة "ميلتون" [الفردوس المفقود]؛ حين ينشد: (فأما المعدن فيبدو بعضه من النضار وبعضه من اللجين الصافي/ وأما الحجر فمعظمه من الزمرد أو الزبرجد/ أو الياقوت أو الياقوت الأصفر وسائر الأحجار الإثنى عشر/ التي سطعت/ على درع (هارون). وكان ثم حجر آخر/ تخيله الناس كثيراً دون أن يروه في غير هذا المكان/ إنه الحجر أو قل إنه يشبه الحجر الذي عبثاً ما طلبه/ الفلاسفة وطويلاً ما بحثوا عنه على الأرض هنا/ دون طائل رغم علومهم و قدرتهم على تقييد/ الطيار ( هيرميس) وفك قيود (بروتيوس) القديم واستحضاره/ من السحر في شتى أشكاله/ وتقطيره في الإمبيق حتى يعود صورته الأولى/ و هل نعجب إذن إذا كانت الحقول والبقاع هنا/ تخرج زفراتها إكسيراً صافياً وتجري الأنهار/ بالذهب السائل إذا كانت لمسة مؤثرة واحدة / من الشمس رأس الكيمياء رغم بعدها الشاسع عنا/ تختلط بمياه الأرض فتبدع/ هنا في الظلمة كثيراً من الأشياء الثمينة) (13) . و يبسط العلاّمة الدكتور "محمد عناني" القول فيما يخص "درع هارون" وعلاقته بعلم المعادن القديمة بقوله: (.. وقد وردت في الكتاب المقدس ترجمة درع هارون "صدرة القضاء" (النص العربي)، ووردت في النصوص الإنجليزية بصور مختلفة منها: "درع للفصل في الأمور"، و"درع للحكم"، و"درع لتحديد إرادة الله"... أما الأحجار الكريمة المذكورة فهي جميعاً ترتبط بالشمس، في إطار النظرية السائدة آنذاك عن درجات المعادن وطبقاتها. وقد كانت لها دلالات صوفية، نابعة من وجود الأحجار نفسها في بوابة أورشليم الجديدة ...... حجر الأوريم المذكور في سفر الخروج 28/30 وقد تخيله الناس كثيراً في غير هذا المكان، لأنهم كانوا يقولون إنه هو نفسه حجر الفلاسفة. أما حجر التميم المذكور في نفس الآية فيقال إنه من الأحجار القمرية، التي يمكن أن تحول المعادن إلى فضة، بينما يستطيع حجر الأوريم في ظنهم تحويلها إلى ذهب لأنه شمسي) (14). هذان الحجران لعبا دوراً هاماً في تحولات الرحلة ذاتها حين سرقت أموال "سانتياجو" وكاد يعود أدراجه، فمنعاه حين استشارهما، كما كانا سبب توثيق علاقته بشاب إنجليزي مشتغل بالخيمياء، حين شاهدهما معه، ومن ثم صار رفيقه إلى مصر، موسعاً من مدى رؤيته لحقائق العالم وتعدد مستويات الرؤية الخاصة بها .
6- هذا الإنجليزي يعكس ما سبق وأسلفته عن الخلفية الخاصة بممارسة السحر في تاريخ "كويلهو" الشخصي، عن طريق علاقته بجماعة إنجليزية، كما يحيل إلى تاريخ طويل اشتهرت به إنجلترا في علاقتها بعوالم السحر، بدايةً من سحرة "السلت" وصولاً إلى مجتمعات السحر الحديثة في المدن الإنجليزية. هذا فضلاً عن هذا الشاب في سياق وصف "كويلهو" له يرسم بجلاء ملامح عامة من شخصية الكاتب نفسه، وبخاصةٍ في شغفه الجامح بعوالم الغيب، وسعيه الملحاح للفهم: (تركزت كل حياته وكل دراساته على البحث عن لغة واحدة يتكلمها العالم، وفي البدء انصب اهتمامه على لغة الاسبرانتو ثم على الأديان، وانتهى به المطاف إلى الخيمياء... غير أن الخيميائيين لا يفكرون إلا في أنفسهم، ودائماً ما يحجبون مساعدتهم. ومن يدري – لعلهم قد فشلوا في اكتشاف سر "العمل الكبير" – أي حجر الفلاسفة، وربما يكون هذا هو سبب اعتزالهم ملتزمين الصمت... اشترى أهم الأعمال عن الخيمياء وأندرها، واكتشف في واحد منها أن خيميائياً عربياً شهيراً زار أوربا قبل عدة سنوات، قيل إن عمره نيف على مائتي عام وإنه قد اكتشف حجر الفلاسفة و إكسير الحياة) (15). هذه الروح الحائرة الباحثة جاءت كخير ما تكون مراعاةً لمقتضى الحال في تلك المرحلة من الرحلة التي تتعاور النفس خلالها شتى صنوف الوساوس ودعاوى النفس بالنكوص والتراجع .
7- يأتي ذلك في نفس الوقت مقترناً بتفعيل مفهومي "إكسير الحياة" و"حجر الفلاسفة" المذكورين آنفا في توقيت دقيق يطابق ذروة الفعل الإكتشافي، والمعيد لترتيب ذرات الشخصية في آن، مما يستلزم [عملاً كبيراً] من شأنه توفير مناخ [السر الأعظم] الذي لا غنى عنه لنجاح عمل الخيميائي. (الإكسير هو أي عنصر وسيط كيميائي أو طبيعي يستطيع تحويل المعادن الدنيا إلى ذهب. وهذا ينطبق على حجر الفلاسفة، وكان الكيميائيون يحاولون جادين التوصل إلى إكسير طول العمر أو ما أسموه بالذهب السائل) (16). (ومن البدهي أن العملية الكيميائية لتحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب لا يمكن أن تتم إلا بوسيط. ومن هنا نشأ الاعتقاد في وجود حجر أطلق عليه حجر الفلاسفة يمكن بواسطة سحق جزء منه وإضافته إلى المعادن الرخيصة إجراء عملية التحويل، هذا طبعا مع تلاوة بعض التعاويذ السحرية. وربما ساعد على الاعتقاد بأن المصريين كانوا فعلا يقومون بعملية التحويل عن طريق حجر معين وجود الأحجار التي كان المصريون يقدسونها، وهي ما كانوا يطلقون عليه اسم "كيفي". ويقول "بلوتارك" أن الأحجار المقدسة كانت تتكون من عدة معادن: ذهب وفضة وشست ومافك [حجران، الأول أزرق والثاني أخضر]) (17) .
وبعد، لعل هذا العرض يكون قد أوفى بالغرض الذي هدفت إلى إثباته في مفتتح القول، والرامي إلى إثبات دور العناصر الطقسية السحرية في دفع عملية التطور في بناء الشخصيات  تدفق السرد في رواية "الخيميائي"، وفي بيان مدى استفادة "باولو كويلهو" من التراث الغيبي في سياقات شديدة التعقد والتراكب من أجل تحقيق صياغة لها فرادتها و جاذبيتها .
و للحديث بقية .

ياسر منجي
lucifer_yass@yahoo.com
القاهرة في 29/1/2005

الهوامش
1- باولو كويللو ، فيرونيكا تقرر أن تموت ، ترجمة ظبية خميس، روايات الهلال ، العدد 627 ، مصر ، 2001 ، ص 20 .
2- إبراهيم أسعد محمد ، نظرات في تاريخ السحر ، مطبعة الأمانة ، مصر ، 1976 ، ص 473 .
3- المرجع السابق ، ص 475 .
4- باولو كويللو ، ساحر الصحراء ، ترجمة بهاء طاهر ، روايات الهلال ، العدد 571 ، مصر ، 1996 ، ص 14 .
5- المرجع السابق ، ص 17 .
6- المرجع السابق ، ص 19 .
7- المرجع السابق ، ص 21 .
8- برنسلاو مالينوفسكي ، السحر و العلم و الدين عند الشعوب البدائية ، ترجمة فيليب عطية ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، مصر ، 1995 ، ص 17 .
9- باولو كويللو ، ساحر الصحراء ، مرجع سابق ، ص 26 .
10- المرجع السابق ، ص 37 .
11- خروج 28/ 15-30 .
12- إبراهيم أسعد ، نظرات في تاريخ السحر ، مرجع سابق ، ص 344 .
13- جون ميلتون ، الفردوس المفقود ، ترجمه و قدم له و كتب حواشيه د.محمد عناني ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، مصر ، 2002 ، ص 215 ، 216 .
14- المرجع السابق ، ص 723 .
15- باولو كويللو ، ساحر الصحراء ، مرجع سابق ، ص 64 .
16- جون ميلتون ، الفردوس المفقود ، مرجع سابق ، ص 723 .
17- إبراهيم أسعد ، نظرات في تاريخ السحر ، مرجع سابق ، ص 476 ، 477 .

No comments: