د. ياسر منجي
. تضارَبت التأويلات والتحليلات التي طرحتها كثرةٌ من خبراء السياسة والكاتبين في شؤونها، منذ بداية الظهور التراجيدي لكيان "داعش"، بعد حوالي ثمان سنوات من تأسيسه عام 2006، في بؤرة الصراع السياسي بالمشرق العربي، مروراً بالتصاعد المُضطَرِد لمنحنى التوغل الذي حققه في منطقة الهلال الخصيب، وما رافقه من نُذُر تصدُّع متسارع في البِنية الجيوسياسية العراقية، وصولاً إلى ما آل إليه الأمر من إعلانٍ لما سُمّيَ بدولة الخلافة الإسلامية، وخروج المُلَقَّب بـ"أبي بكر البغدادي" لإشهار نفسه بِحُسبانِه خليفةً للمسلمين، في التاسع والعشرين من يونيو 2014، الموافق لأول أيام شهر رمضان من عام 1435 للهجرة. غير أن هناك بعض الظواهر التي لم تُطرَح بشأنها التفسيرات ولا التحليلات الوافية، وهي ظواهر جديرة بالانتباه؛ لاسيّما وأنها رافقَت مسيرة الكيان الداعشي، وبرزت إعلامياً على نحوٍ يستوجب إعمال الفِكر والتدَبُّر، لاستخلاص ما قد يُضفي بصيصاً من ضوء الفهم على هذا المشهد المأساوي. ويتضح ما سبق على الفور حالَ إعادة تأمُّلِنا – بشيءٍ من التدبُّر والتحليل - لأية عينة من الأفلام والصور والبيانات المنسوبة إلى "داعش"، والتي باتت تعجّ بها صفحات الجرائد وشاشات الفضائيات ومواقع النت، وبخاصةٍ ما يسجل منها ممارسات دموية عنيفة تتم بحق أفرادٍ وجماعات، وما يُوَثِّقُ بعض المواقف الاستعراضية، التي يظهر خلالها بعض الموصوفين بقيادات الجماعة، على نحوٍ تبدو من خلاله هذه الأفلام والصور كمواد دعائية، تبثها "داعش" بشكلٍ قصدي لترسيخ صورةٍ ذهنيةٍ بعينها، تعتمد على مجموعة من الرموز البصرية والإسقاطات المُستَجلَبة من ماضي المَشرِق، لتصدير مجموعة من المعاني والتداعيات، التي من شأنها أن تستعيد في اللاوعي الجمعي أصداء لحظاتٍ فاجعة في التاريخ العربي، وأن تستدعي في الوقت نفسه طائفةً من المَرويّات والنصوص المرتبطة بفكرة آخر الزمان وأحداث ما قبل القيامة، فلا يلبث المتأمل الفاحص أن يخرج بنتيجةٍ لا تخلو من منطق، وهي أنه من الجائز أن تكون مثل هذه المواقف الداعشية الاستعراضية، ومَثيلاتِها الدموية، استراتيجيةً دعائية تنتهجها "داعش"، وتستهدف بها إعادة تدوير التاريخ والتمسُّح في بعض النصوص الدينية، لترسيخ إيحاءاتٍ وأفكارٍ بِعَينها في خواطر العامة من الناس؛ وهو ما يمكن توضيحه هنا، من خلال المقارَنَة بين تلك الخطبة المشار إليها في البداية، والتي انتشرت أخبارها مؤخراً على نطاقٍ واسع، للمدعو "أبا بكر البغدادي" – والذي يتواتر أن اسمه الأصلي "إبراهيم عواد إبراهيم" - الذي أعلن نفسه خلالها خليفةً للمسلمين، وبين خطبةٍ رهيبة، سبق وأن ألقاها "أبو العباس السفاح"، أول خلفاء بني العباس، بمسجد الكوفة، عقب مبايعته بالخلافة، في الثاني عشر من ربيع الأول سنة 132هـ/ 750م، قائلاً في ختامها: "فاستعدوا أيها الناس، فأنا السَّفَّاح المُبيح والثائر المَنيح". وكانت خطبته تلك بمثابة إعلان رسمي عن قيام الدولة العباسية، كما كانت خطبة "البغدادي" إعلاناً عما سُمّي بدولة الخلافة الإسلامية في العراق والشام. صحيحٌ أنه شتّان ما بين الدولة العباسية، التي صنعت حقبة من أخصب حقب الإمبراطورية الإسلامية وأزهاها بالعلوم والفنون والآداب، وبين ذلك الكيان الداعشي الذي تضطرب في شأنه التحليلات والتفاسير، إلا أن ذلك لا ينفي بعض التشابهات العجيبة، التي يبدو معها القول بمصادفة التشابُه ضرباً من التساهُل البحثي؛ ومِن ذلك: أولاً: إلحاح الداعشيين على استثمار مَشاهد الفظائع الدموية، التي يجري خلالها قطع الرؤوس ونحر الأعناق وتفجير الأدمغة بالأعيرة النارية، وإلقاء جثث الخصوم في سفوح الجبال وقيعان الأخاديد الصخرية، مع الإمعان في إظهار التلَذُّذ بهذه الفِعال، وإطلاق التكبيرات والتهليلات، والتوسُّع في نشر ذلك على الملأ في عشرات من مقاطع الفيديو المنسوبة إليهم، والمبثوثة في روابط مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها من مرافئ الفضاء الإلكتروني، في إحالة لممارسات مَثيلة، طالما حفلت بها بطون كتب التاريخ العربي، التي سَجَّلَت تفاصيل التأسيس العصيب للدولة العباسية، وما رافقه من مجازر كانت تكشف أحياناً عن خلل في فِطرة مرتكبيها؛ ومِن ذلك الحادثة التي رواها المؤرخ "ابن الأثير"، عن أحد أعمام "السفاح" – وهو "عبد الله بن علي" – حين أحضر ما يقرب من تسعين أموياً وأمر بقتلهم، ثم غطّاهم وجلس يأكل غداءه على جثثهم، بينما بعضهم لا يزال تزهق روحُه. ثانياً: اشتمال كيان "داعش" على عددٍ كبير من المقاتلين القادمين من دولٍ مختلفة، منها دولٌ شرقية وأخرى غربية، غير أن أهم من برزوا منهم واشتهروا كانوا أولئك المنتسبين لشمال آسيا وغربها؛ وأشهرهم المدعو "عمر الشيشاني"، ذلك المقاتل القادم من جمهورية "جورجيا"، المنتسب إلى ما يُعرَف باسم "جيش المغتربين والأنصار"، الذي يضم عدداً كبيراً من المقاتلين من مواطني الجمهوريات السوفييتية المفككة، وهو ما يستدعي النموذج العباسي الأشهر "أبو مسلم الخراساني"، أكبر دُعاة الدولة العباسية وأشهر قُوادها في عهد تأسيسها الأول، الذي قُتِل عام 137 هـ، بإيعازٍ من ثاني خلفاء بني العباس "أبي جعفر المنصور"، بعد خمس سنواتٍ فقط من قيام الدولة العباسية، التي كان له الفضل الأوفر في التمهيد لقيامها وحشد الأنصار لها في بلاد ما وراء النهر. فقد أتى "أبو مسلم" من إقليم "خراسان"، الذي كان يشمل وقتها إيران وأفغانستان وبعض أقاليم مما يُعرَف حالياً بجمهوريات آسيا الوسطى، وهي ذاتها المناطق المتاخمة للدول التي يَفِدُ منها أشهر مقاتلي "داعش" الأورو-آسيويين كما نرى. ثالثاً: اتخاذ الداعشيين للسواد رمزاً وشارة، تشيعُ رؤياه في ملابسهم، وتخفق به راياتهم، ويرفل فيه خليفتهم، الذي حرص على الاتّشاح التام به في خطبته المذكورة، ليظهر فيها على الملأ مُعلِناً قيام دولته المُختَلَقة، وقد بدا في مظهره مطابقاً تمام المطابَقة لأوصاف "السَفّاح"، مِن حيث الزِيِّ والشارة؛ إذ ظهر "السفاح" بأعوانه في مبتدأ أمرِهِم وهم يحملون راياتٍ سوداء، وكان شعارهم السواد، الذي أصبح مِن ثَمّ شعاراً للدولة العباسية بأسرِها. وعلى الشاكلة نفسِها ظهر "البغدادي" في خطبته المشار إليها مرتدياً ملابس تامة السواد، ومُعتَمَّاً بعمامةٍ من اللون نفسِه، في مغازلة صريحة للإرث العباسي، وإن كانت مغازلة لا تخلو من ظلال لا ينبغي إغفالها، تنعكس على مرآةِ ذاكرةٍ قريبة، يحتل فيها "الخميني" والعديد من كبار مراجع الشيعة قلب الصورة، الأمر الذي قد يمكن تأويله باعتباره تدبيراً رمزياً مقصوداً، لمناوأة الشيعة – الخصوم المباشرين للداعشيين وفق السيناريو المطروح حالياً – وكسر احتكارهم لأحد أشهر رموزهم البصرية، والظهور بمظهر الند، الجدير بإشهار مرجعيات ثقافية طالما اعتُبِرَت حِكراً على المنتسبين إلى بني هاشم من أئمة الشيعة في أنماط الثياب والشارات. وهنا، يأتي الشِقُّ الأعقَد من المسألة، وهو إعادة تأويل النَص الديني، والتمَسُّح القصدي في آثاره وتفاسيره، لمحاولة إضفاء المشروعية على تلك الصورة، وفي الوقت نفسه لمغازلة اللاوعي الجمعي، وإعادة طرح الأفكار المتعلقة بحوادث نهاية الزمان واستشراف القيامة وفقاً للمعتَقَد الإسلامي (بصرف النظر عن الخلافات القائمة بين علماء الحديث حول صحة هذه النصوص أو ضعفها). وقد رُصِدَت هذه الظاهرة في مقالات بعض الكتّاب العرب، ممن حاولوا تفنيدها على أسس علمية وتاريخية (نموذج)، وكذلك في عدد من المواقع العربية، التي علقت على انتشار اللغط حولها بين عددٍ كبير من المُدَوِّنين ومستخدمي الشبكة العنكبوتية مؤخراً (راجع: "بغداد تي في نت"، و"موقع البوابة")؛ وهو ما يمكن اختصاره بالاستعراض المباشر لنموذجين شهيرين من نماذج هذه النصوص، أولهما ما رواه "البيهقي" من طريق "يعقوب بن سفيان"، حين قال: حدثنا "محمد" عن "أبي المغيرة عبد القدوس" عن "إسماعيل بن عياش" عمن حدثه عن "كعب الاحبار" قال: "تظهر راياتٌ سودٌ لِبَني العباس حتى ينزلوا بالشام، ويقتل الله على أيديهم كل جبار وكل عدو لهم". وفي هذا شرحٌ يطول لما يُعرَف عند علماء الحديث باسم "أحاديث الرايات السود"، التي تترافق مع أحداث آخر الزمان؛ ومِن ذلك حديث "ثوبان" رضي الله عنه، قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقتتل عند كنزكم ثلاثة، كلهم ابن خليفة ثم لا يصير إلى واحد منهم، ثم تطلع الرايات السود من قِبَل المشرق فيقتلونكم قتلاً لم يقتله قوم" ثم ذكر شيئاً لا أحفظه فقال: "فإذا رأيتموه - المهدي - فبايعوه ولو حبواً على الثلج فإنه خليفة الله المهدي" رواه "ابن ماجه" و"الحاكم" وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ووافقه "الذهبي"، وقال "ابن كثير": "هذا إسناد قوي صحيح، وقال: "والمراد بالكنز المذكور في هذا السياق كنز الكعبة"، وقال أيضاً: "ويؤيد - أي المهدي - بناسٍ من أهل المشرق ينصرونه ويقيمون سلطانه ويشيدون أركانه وتكون راياتهم سوداً أيضاً، وهو زِيٌّ عليه الوقار لأن راية رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت سوداء يقال لها: العُقاب". ولنتوقف هنا عند بضعة نقاط بالغة الدلالة: أولها إجماع معظم هذه الأحاديث والمرويات على ذِكر منطقتي المَشرِق والشام، وهو أحد الأسباب التي يبدو أنها تشجع البعض على الربط بين تلك الأحاديث وبين "داعش"؛ لكون العراق والشام المنطقتين ذاتهما اللتين تدور فيهما حوادث "داعش"، والمذكورتين صراحةً في توصيفها باعتبارها "الدولة الإسلامية في العراق والشام". النقطة الثانية هي المتعلقة بالرايات السُود، والتي استفضنا فيها سلفاً. أما النقطة الثالثة فتتعلق بالعبارة الأولى من الحديث، والتي نَصُّها "يقتتل عند كنزكم ثلاثة"، وهي نقطة مزدوجة؛ إذ – برغم تفسير بعض الشُرّاح للكنز بالكعبة – فإننا لن نَعدَم في هذا الإطار الملتبس أن تفعل قوة الإيحاء فعلها، فيلجأ القائلون بهذه المقارنة إلى المطابقة بين فكرة الكنز وبحار النفط والغاز التي يرقد فوقها العراق، لاسيما وأن كثيراً من المحللين السياسيين يرونه بات مرشحاً بقوة للتفكُّك إلى (ثلاث) دويلات متناحرة، هي السنية والشيعية والكردية، والتي قد يراها بعض المتحمسين لتأويل النَصّ تطابق عدد المتقاتلين المذكورين في الحديث. وهنا نأتي للنقطة الرابعة، وهي الأهم، والمتعلقة بما ورد في الحديث، مِن أن اقتتال الفِرَق الثلاث سيكون توطئةً لظهور الرايات السود، وهو ما يوازيه ما نقرأه يومياً من استقواء "داعش" على حساب الاحتراب الدائر بين القوى الثلاث المذكورة بالعراق، حتى نصل إلى النقطة الخامسة، التي ربما كانت النقاط السابقة بأسرِها مقدمات لها، وتمهيداً للاعتماد عليها في مغازلة مشاعر العامّة والبسطاء والحالمين بإعادة مشروع الخلافة، ألا وهي خاتمة الحديث، التي تتحدث عن ظهور "المهدي المنتظر"، باعتباره (خليفة الله) أولاً، وإمام آخِر الزمان المؤيَّد بمقاتلي المشرق ذوي الرايات السود ثانياً. وهنا نكون قد وصلنا إلى ذروة التصاعد لهذه المنظومة من الرموز الإيحائية، وإلى الهدف المركزي نفسه التي تؤسس "داعش" مشروعها بأسرِه لمحاولة الوصول إليه، وهو تحقيق فكرة الإمامة المصطبغة بصفة الخلافة المؤيَّدة من الله، والتي أعلنها صراحةً "أبو بكر البغدادي" في خطبته، متخذاً زي الأئمة وهيئاتهم وفقاً للأوصاف التي وَقِرَت في أذهان السواد الأعظم من الناس عن نموذج الخليفة وفكرة "المهدي". الآن يحقُّ لنا طرح سؤالٍ، قد يستكمل صياغة ما بدأناه، ويفتح مزيداً من آفاق الاحتمالات أمام الرؤية التي طرحناها لقراءة هذا المشهد الملتبس، وهو: هل يمكن حقاً أن يكون أصحاب القرار في "داعش"، أو بعض القائمين على أمر الترويج الدعائي لها، على دراية بهذه الخلفيات التاريخية والمرويات النَصِّيَّة، إلى الدرجة التي قد تؤدي بهم إلى استثمارها وتصديرها رمزياً على هذا النحو، لخدمة مشروعهم التوسُّعي، الذي يستهدف استعادة نموذج الخلافة الإسلامية، على نحوٍ يغازل في الوقت نفسه خطاب نهاية العالم، مستغلاً في ذلك تطابقات جغرافية ومَظهرية؟ في سياق الإجابة المبدئية على هذا السؤال، لا يفوتنا هنا عدة أمور، تضفي في الوقت نفسه مزيداً من المنطقية على التحليل الذي أجريناه تَوّاً؛ أولها كون "البغدادي" عراقياً، وهو ما يربطه مباشرةً بتراث تلك المنطقة وتاريخها، وفي الصُلب من هذا التاريخ تراث الدولة العباسية، بأمجادها وأوجاعها وأحداثها ورجالها. الأمر الثاني هو – وفقاً لتقرير نشرته صحيفة "تِليجراف" البريطانية - أن "البغدادي" حصل على شهادته الجامعية الأولى والماجستير من جامعة العلوم الإسلامية، ثم حصل على الدكتوراة في القانون الإسلامي من الجامعة ذاتها في عام 2000، فإذا ما أضفنا إلى هذا ما نُشِر عن مكوثه بحي "الطبجي" ببغداد حتى عام 2004، قاطناً في غرفة ملاصقة لمسجد الحي الذي عمل فيه إماماً لنحو 14 عاماً، فإننا نكون بإزاء شخصية على دراية بالأدبيات الإسلامية، ولها القدرة على النبش في النصوص واستدعاء الشروح، بما يسمح بإعادة استثمارها وتوظيفها وفق مقتضيات اللحظة، وهي معارف وقدرات قد يشاركه فيها آخرون ممن ينتسبون لـ"داعش" أو يروجون لها، فضلاً عن الإلمام المفترَض بتاريخ الدولة الإسلامية ورموزها، وفي المقدمة منهم مشاهير القادة والحكام أمثال "السفاح" وغيره، من الشخصيات الجديرة بإلهام مَن هم على شاكلة "البغدادي". قد يكون الفارق في المشهد الأخير من تلك المسرحية البائسة، هو أن "البغدادي" ظهر بصفة الخليفة وهو في الثالثة والأربعين من عمره – فهو من مواليد عام 1971، حسب ما يتواتر عنه على مواقع الإنترنت – بينما ظهر "السفاح" في السابعة والعشرين من عمره، كما أنه توفي صغيراً، في الثانية والثلاثين من عمره، وقيل في الثالثة والثلاثين، وكان موته بالجُدَري، في يوم الأحد الثالث عشر من ذي الحجة، سنة 136هـ/ 754م. وكانت خلافته أربع سنين وتسعة أشهر على أشهر الأقوال. لكن المؤكد، هو أنه طالما بقِيَت أسباب الشقاق ضاربةً أوتادها في الثقافة العربية، وطالما ظلت الذهنية الشرقية متشبثةً بخطاباتٍ متصلبة، تستهين بقيمة العقل، وتزدري الحوار لصالح الطائفية المَقيتَة، فسيظل المشهد بيئةً سَبِخة، صالحة لنمو جميع أشكال النَبت الهَجين، وسيظل الطريق مفتوحاً أمام الآلاف من المتطرفين، والهاربين إلى الماضي، وعشاق الفَناء، وأصحاب المشروعات الخرافية، كي يعيدوا تأويل التاريخ، واستثمار التراث والمرجعيات المقدسة والنصوص الفقهية، لكتابة سيناريوهات دموية، وإخراج مسرحياتٍ فواجعية، يعلم الله وحده كم من الأبرياء ستحصدهم مشاهدها المجنونة.
. تضارَبت التأويلات والتحليلات التي طرحتها كثرةٌ من خبراء السياسة والكاتبين في شؤونها، منذ بداية الظهور التراجيدي لكيان "داعش"، بعد حوالي ثمان سنوات من تأسيسه عام 2006، في بؤرة الصراع السياسي بالمشرق العربي، مروراً بالتصاعد المُضطَرِد لمنحنى التوغل الذي حققه في منطقة الهلال الخصيب، وما رافقه من نُذُر تصدُّع متسارع في البِنية الجيوسياسية العراقية، وصولاً إلى ما آل إليه الأمر من إعلانٍ لما سُمّيَ بدولة الخلافة الإسلامية، وخروج المُلَقَّب بـ"أبي بكر البغدادي" لإشهار نفسه بِحُسبانِه خليفةً للمسلمين، في التاسع والعشرين من يونيو 2014، الموافق لأول أيام شهر رمضان من عام 1435 للهجرة. غير أن هناك بعض الظواهر التي لم تُطرَح بشأنها التفسيرات ولا التحليلات الوافية، وهي ظواهر جديرة بالانتباه؛ لاسيّما وأنها رافقَت مسيرة الكيان الداعشي، وبرزت إعلامياً على نحوٍ يستوجب إعمال الفِكر والتدَبُّر، لاستخلاص ما قد يُضفي بصيصاً من ضوء الفهم على هذا المشهد المأساوي. ويتضح ما سبق على الفور حالَ إعادة تأمُّلِنا – بشيءٍ من التدبُّر والتحليل - لأية عينة من الأفلام والصور والبيانات المنسوبة إلى "داعش"، والتي باتت تعجّ بها صفحات الجرائد وشاشات الفضائيات ومواقع النت، وبخاصةٍ ما يسجل منها ممارسات دموية عنيفة تتم بحق أفرادٍ وجماعات، وما يُوَثِّقُ بعض المواقف الاستعراضية، التي يظهر خلالها بعض الموصوفين بقيادات الجماعة، على نحوٍ تبدو من خلاله هذه الأفلام والصور كمواد دعائية، تبثها "داعش" بشكلٍ قصدي لترسيخ صورةٍ ذهنيةٍ بعينها، تعتمد على مجموعة من الرموز البصرية والإسقاطات المُستَجلَبة من ماضي المَشرِق، لتصدير مجموعة من المعاني والتداعيات، التي من شأنها أن تستعيد في اللاوعي الجمعي أصداء لحظاتٍ فاجعة في التاريخ العربي، وأن تستدعي في الوقت نفسه طائفةً من المَرويّات والنصوص المرتبطة بفكرة آخر الزمان وأحداث ما قبل القيامة، فلا يلبث المتأمل الفاحص أن يخرج بنتيجةٍ لا تخلو من منطق، وهي أنه من الجائز أن تكون مثل هذه المواقف الداعشية الاستعراضية، ومَثيلاتِها الدموية، استراتيجيةً دعائية تنتهجها "داعش"، وتستهدف بها إعادة تدوير التاريخ والتمسُّح في بعض النصوص الدينية، لترسيخ إيحاءاتٍ وأفكارٍ بِعَينها في خواطر العامة من الناس؛ وهو ما يمكن توضيحه هنا، من خلال المقارَنَة بين تلك الخطبة المشار إليها في البداية، والتي انتشرت أخبارها مؤخراً على نطاقٍ واسع، للمدعو "أبا بكر البغدادي" – والذي يتواتر أن اسمه الأصلي "إبراهيم عواد إبراهيم" - الذي أعلن نفسه خلالها خليفةً للمسلمين، وبين خطبةٍ رهيبة، سبق وأن ألقاها "أبو العباس السفاح"، أول خلفاء بني العباس، بمسجد الكوفة، عقب مبايعته بالخلافة، في الثاني عشر من ربيع الأول سنة 132هـ/ 750م، قائلاً في ختامها: "فاستعدوا أيها الناس، فأنا السَّفَّاح المُبيح والثائر المَنيح". وكانت خطبته تلك بمثابة إعلان رسمي عن قيام الدولة العباسية، كما كانت خطبة "البغدادي" إعلاناً عما سُمّي بدولة الخلافة الإسلامية في العراق والشام. صحيحٌ أنه شتّان ما بين الدولة العباسية، التي صنعت حقبة من أخصب حقب الإمبراطورية الإسلامية وأزهاها بالعلوم والفنون والآداب، وبين ذلك الكيان الداعشي الذي تضطرب في شأنه التحليلات والتفاسير، إلا أن ذلك لا ينفي بعض التشابهات العجيبة، التي يبدو معها القول بمصادفة التشابُه ضرباً من التساهُل البحثي؛ ومِن ذلك: أولاً: إلحاح الداعشيين على استثمار مَشاهد الفظائع الدموية، التي يجري خلالها قطع الرؤوس ونحر الأعناق وتفجير الأدمغة بالأعيرة النارية، وإلقاء جثث الخصوم في سفوح الجبال وقيعان الأخاديد الصخرية، مع الإمعان في إظهار التلَذُّذ بهذه الفِعال، وإطلاق التكبيرات والتهليلات، والتوسُّع في نشر ذلك على الملأ في عشرات من مقاطع الفيديو المنسوبة إليهم، والمبثوثة في روابط مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها من مرافئ الفضاء الإلكتروني، في إحالة لممارسات مَثيلة، طالما حفلت بها بطون كتب التاريخ العربي، التي سَجَّلَت تفاصيل التأسيس العصيب للدولة العباسية، وما رافقه من مجازر كانت تكشف أحياناً عن خلل في فِطرة مرتكبيها؛ ومِن ذلك الحادثة التي رواها المؤرخ "ابن الأثير"، عن أحد أعمام "السفاح" – وهو "عبد الله بن علي" – حين أحضر ما يقرب من تسعين أموياً وأمر بقتلهم، ثم غطّاهم وجلس يأكل غداءه على جثثهم، بينما بعضهم لا يزال تزهق روحُه. ثانياً: اشتمال كيان "داعش" على عددٍ كبير من المقاتلين القادمين من دولٍ مختلفة، منها دولٌ شرقية وأخرى غربية، غير أن أهم من برزوا منهم واشتهروا كانوا أولئك المنتسبين لشمال آسيا وغربها؛ وأشهرهم المدعو "عمر الشيشاني"، ذلك المقاتل القادم من جمهورية "جورجيا"، المنتسب إلى ما يُعرَف باسم "جيش المغتربين والأنصار"، الذي يضم عدداً كبيراً من المقاتلين من مواطني الجمهوريات السوفييتية المفككة، وهو ما يستدعي النموذج العباسي الأشهر "أبو مسلم الخراساني"، أكبر دُعاة الدولة العباسية وأشهر قُوادها في عهد تأسيسها الأول، الذي قُتِل عام 137 هـ، بإيعازٍ من ثاني خلفاء بني العباس "أبي جعفر المنصور"، بعد خمس سنواتٍ فقط من قيام الدولة العباسية، التي كان له الفضل الأوفر في التمهيد لقيامها وحشد الأنصار لها في بلاد ما وراء النهر. فقد أتى "أبو مسلم" من إقليم "خراسان"، الذي كان يشمل وقتها إيران وأفغانستان وبعض أقاليم مما يُعرَف حالياً بجمهوريات آسيا الوسطى، وهي ذاتها المناطق المتاخمة للدول التي يَفِدُ منها أشهر مقاتلي "داعش" الأورو-آسيويين كما نرى. ثالثاً: اتخاذ الداعشيين للسواد رمزاً وشارة، تشيعُ رؤياه في ملابسهم، وتخفق به راياتهم، ويرفل فيه خليفتهم، الذي حرص على الاتّشاح التام به في خطبته المذكورة، ليظهر فيها على الملأ مُعلِناً قيام دولته المُختَلَقة، وقد بدا في مظهره مطابقاً تمام المطابَقة لأوصاف "السَفّاح"، مِن حيث الزِيِّ والشارة؛ إذ ظهر "السفاح" بأعوانه في مبتدأ أمرِهِم وهم يحملون راياتٍ سوداء، وكان شعارهم السواد، الذي أصبح مِن ثَمّ شعاراً للدولة العباسية بأسرِها. وعلى الشاكلة نفسِها ظهر "البغدادي" في خطبته المشار إليها مرتدياً ملابس تامة السواد، ومُعتَمَّاً بعمامةٍ من اللون نفسِه، في مغازلة صريحة للإرث العباسي، وإن كانت مغازلة لا تخلو من ظلال لا ينبغي إغفالها، تنعكس على مرآةِ ذاكرةٍ قريبة، يحتل فيها "الخميني" والعديد من كبار مراجع الشيعة قلب الصورة، الأمر الذي قد يمكن تأويله باعتباره تدبيراً رمزياً مقصوداً، لمناوأة الشيعة – الخصوم المباشرين للداعشيين وفق السيناريو المطروح حالياً – وكسر احتكارهم لأحد أشهر رموزهم البصرية، والظهور بمظهر الند، الجدير بإشهار مرجعيات ثقافية طالما اعتُبِرَت حِكراً على المنتسبين إلى بني هاشم من أئمة الشيعة في أنماط الثياب والشارات. وهنا، يأتي الشِقُّ الأعقَد من المسألة، وهو إعادة تأويل النَص الديني، والتمَسُّح القصدي في آثاره وتفاسيره، لمحاولة إضفاء المشروعية على تلك الصورة، وفي الوقت نفسه لمغازلة اللاوعي الجمعي، وإعادة طرح الأفكار المتعلقة بحوادث نهاية الزمان واستشراف القيامة وفقاً للمعتَقَد الإسلامي (بصرف النظر عن الخلافات القائمة بين علماء الحديث حول صحة هذه النصوص أو ضعفها). وقد رُصِدَت هذه الظاهرة في مقالات بعض الكتّاب العرب، ممن حاولوا تفنيدها على أسس علمية وتاريخية (نموذج)، وكذلك في عدد من المواقع العربية، التي علقت على انتشار اللغط حولها بين عددٍ كبير من المُدَوِّنين ومستخدمي الشبكة العنكبوتية مؤخراً (راجع: "بغداد تي في نت"، و"موقع البوابة")؛ وهو ما يمكن اختصاره بالاستعراض المباشر لنموذجين شهيرين من نماذج هذه النصوص، أولهما ما رواه "البيهقي" من طريق "يعقوب بن سفيان"، حين قال: حدثنا "محمد" عن "أبي المغيرة عبد القدوس" عن "إسماعيل بن عياش" عمن حدثه عن "كعب الاحبار" قال: "تظهر راياتٌ سودٌ لِبَني العباس حتى ينزلوا بالشام، ويقتل الله على أيديهم كل جبار وكل عدو لهم". وفي هذا شرحٌ يطول لما يُعرَف عند علماء الحديث باسم "أحاديث الرايات السود"، التي تترافق مع أحداث آخر الزمان؛ ومِن ذلك حديث "ثوبان" رضي الله عنه، قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقتتل عند كنزكم ثلاثة، كلهم ابن خليفة ثم لا يصير إلى واحد منهم، ثم تطلع الرايات السود من قِبَل المشرق فيقتلونكم قتلاً لم يقتله قوم" ثم ذكر شيئاً لا أحفظه فقال: "فإذا رأيتموه - المهدي - فبايعوه ولو حبواً على الثلج فإنه خليفة الله المهدي" رواه "ابن ماجه" و"الحاكم" وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ووافقه "الذهبي"، وقال "ابن كثير": "هذا إسناد قوي صحيح، وقال: "والمراد بالكنز المذكور في هذا السياق كنز الكعبة"، وقال أيضاً: "ويؤيد - أي المهدي - بناسٍ من أهل المشرق ينصرونه ويقيمون سلطانه ويشيدون أركانه وتكون راياتهم سوداً أيضاً، وهو زِيٌّ عليه الوقار لأن راية رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت سوداء يقال لها: العُقاب". ولنتوقف هنا عند بضعة نقاط بالغة الدلالة: أولها إجماع معظم هذه الأحاديث والمرويات على ذِكر منطقتي المَشرِق والشام، وهو أحد الأسباب التي يبدو أنها تشجع البعض على الربط بين تلك الأحاديث وبين "داعش"؛ لكون العراق والشام المنطقتين ذاتهما اللتين تدور فيهما حوادث "داعش"، والمذكورتين صراحةً في توصيفها باعتبارها "الدولة الإسلامية في العراق والشام". النقطة الثانية هي المتعلقة بالرايات السُود، والتي استفضنا فيها سلفاً. أما النقطة الثالثة فتتعلق بالعبارة الأولى من الحديث، والتي نَصُّها "يقتتل عند كنزكم ثلاثة"، وهي نقطة مزدوجة؛ إذ – برغم تفسير بعض الشُرّاح للكنز بالكعبة – فإننا لن نَعدَم في هذا الإطار الملتبس أن تفعل قوة الإيحاء فعلها، فيلجأ القائلون بهذه المقارنة إلى المطابقة بين فكرة الكنز وبحار النفط والغاز التي يرقد فوقها العراق، لاسيما وأن كثيراً من المحللين السياسيين يرونه بات مرشحاً بقوة للتفكُّك إلى (ثلاث) دويلات متناحرة، هي السنية والشيعية والكردية، والتي قد يراها بعض المتحمسين لتأويل النَصّ تطابق عدد المتقاتلين المذكورين في الحديث. وهنا نأتي للنقطة الرابعة، وهي الأهم، والمتعلقة بما ورد في الحديث، مِن أن اقتتال الفِرَق الثلاث سيكون توطئةً لظهور الرايات السود، وهو ما يوازيه ما نقرأه يومياً من استقواء "داعش" على حساب الاحتراب الدائر بين القوى الثلاث المذكورة بالعراق، حتى نصل إلى النقطة الخامسة، التي ربما كانت النقاط السابقة بأسرِها مقدمات لها، وتمهيداً للاعتماد عليها في مغازلة مشاعر العامّة والبسطاء والحالمين بإعادة مشروع الخلافة، ألا وهي خاتمة الحديث، التي تتحدث عن ظهور "المهدي المنتظر"، باعتباره (خليفة الله) أولاً، وإمام آخِر الزمان المؤيَّد بمقاتلي المشرق ذوي الرايات السود ثانياً. وهنا نكون قد وصلنا إلى ذروة التصاعد لهذه المنظومة من الرموز الإيحائية، وإلى الهدف المركزي نفسه التي تؤسس "داعش" مشروعها بأسرِه لمحاولة الوصول إليه، وهو تحقيق فكرة الإمامة المصطبغة بصفة الخلافة المؤيَّدة من الله، والتي أعلنها صراحةً "أبو بكر البغدادي" في خطبته، متخذاً زي الأئمة وهيئاتهم وفقاً للأوصاف التي وَقِرَت في أذهان السواد الأعظم من الناس عن نموذج الخليفة وفكرة "المهدي". الآن يحقُّ لنا طرح سؤالٍ، قد يستكمل صياغة ما بدأناه، ويفتح مزيداً من آفاق الاحتمالات أمام الرؤية التي طرحناها لقراءة هذا المشهد الملتبس، وهو: هل يمكن حقاً أن يكون أصحاب القرار في "داعش"، أو بعض القائمين على أمر الترويج الدعائي لها، على دراية بهذه الخلفيات التاريخية والمرويات النَصِّيَّة، إلى الدرجة التي قد تؤدي بهم إلى استثمارها وتصديرها رمزياً على هذا النحو، لخدمة مشروعهم التوسُّعي، الذي يستهدف استعادة نموذج الخلافة الإسلامية، على نحوٍ يغازل في الوقت نفسه خطاب نهاية العالم، مستغلاً في ذلك تطابقات جغرافية ومَظهرية؟ في سياق الإجابة المبدئية على هذا السؤال، لا يفوتنا هنا عدة أمور، تضفي في الوقت نفسه مزيداً من المنطقية على التحليل الذي أجريناه تَوّاً؛ أولها كون "البغدادي" عراقياً، وهو ما يربطه مباشرةً بتراث تلك المنطقة وتاريخها، وفي الصُلب من هذا التاريخ تراث الدولة العباسية، بأمجادها وأوجاعها وأحداثها ورجالها. الأمر الثاني هو – وفقاً لتقرير نشرته صحيفة "تِليجراف" البريطانية - أن "البغدادي" حصل على شهادته الجامعية الأولى والماجستير من جامعة العلوم الإسلامية، ثم حصل على الدكتوراة في القانون الإسلامي من الجامعة ذاتها في عام 2000، فإذا ما أضفنا إلى هذا ما نُشِر عن مكوثه بحي "الطبجي" ببغداد حتى عام 2004، قاطناً في غرفة ملاصقة لمسجد الحي الذي عمل فيه إماماً لنحو 14 عاماً، فإننا نكون بإزاء شخصية على دراية بالأدبيات الإسلامية، ولها القدرة على النبش في النصوص واستدعاء الشروح، بما يسمح بإعادة استثمارها وتوظيفها وفق مقتضيات اللحظة، وهي معارف وقدرات قد يشاركه فيها آخرون ممن ينتسبون لـ"داعش" أو يروجون لها، فضلاً عن الإلمام المفترَض بتاريخ الدولة الإسلامية ورموزها، وفي المقدمة منهم مشاهير القادة والحكام أمثال "السفاح" وغيره، من الشخصيات الجديرة بإلهام مَن هم على شاكلة "البغدادي". قد يكون الفارق في المشهد الأخير من تلك المسرحية البائسة، هو أن "البغدادي" ظهر بصفة الخليفة وهو في الثالثة والأربعين من عمره – فهو من مواليد عام 1971، حسب ما يتواتر عنه على مواقع الإنترنت – بينما ظهر "السفاح" في السابعة والعشرين من عمره، كما أنه توفي صغيراً، في الثانية والثلاثين من عمره، وقيل في الثالثة والثلاثين، وكان موته بالجُدَري، في يوم الأحد الثالث عشر من ذي الحجة، سنة 136هـ/ 754م. وكانت خلافته أربع سنين وتسعة أشهر على أشهر الأقوال. لكن المؤكد، هو أنه طالما بقِيَت أسباب الشقاق ضاربةً أوتادها في الثقافة العربية، وطالما ظلت الذهنية الشرقية متشبثةً بخطاباتٍ متصلبة، تستهين بقيمة العقل، وتزدري الحوار لصالح الطائفية المَقيتَة، فسيظل المشهد بيئةً سَبِخة، صالحة لنمو جميع أشكال النَبت الهَجين، وسيظل الطريق مفتوحاً أمام الآلاف من المتطرفين، والهاربين إلى الماضي، وعشاق الفَناء، وأصحاب المشروعات الخرافية، كي يعيدوا تأويل التاريخ، واستثمار التراث والمرجعيات المقدسة والنصوص الفقهية، لكتابة سيناريوهات دموية، وإخراج مسرحياتٍ فواجعية، يعلم الله وحده كم من الأبرياء ستحصدهم مشاهدها المجنونة.