خبر إدراج الرواية بالمكتبة الوطنية الاسترالية:
خبر إدراج الرواية بمكتبة جامعة ميتشجان:
افتتاحية الرواية
وُجِدَت العبارات الآتية مكتوبة بمداد أحمر، على رق مطوي ومحشور في شق بأحد الألواح الخشبية العتيقة السبعة، التي كانت تدعم سقف ضريح "سيدي بسيسة"، وذلك عقب هدم السقف القديم لاستبداله بآخر من الخرسانة المسلحة:
[،أما بعد
فهذه خلاصة مما تناهى إلينا ووقعنا عليه من تاريخ العارف الأكبر والكبريت الأحمر ومسك العلوم الأزفر، سيدي الشيخ "بسيسة" دفين "أرض الزغل".
وكنا قد تحصلنا على ترجمته بخط محسوبه وتلميذه وخادم ضريحه، [ساقط في الأصل]، غفر الله له نفعه ببركة مخدومه آمين.
وعلى هامشه كتاب (الدرة النفيسة في مآثر مولاي بسيسة)، وأكثره ساقط للأسف، وأغلب ظننا أنه بفعل جهل الجاهلين وحسد الحاسدين.
ويليه كتاب (ما كان من أمر الدنيا وما يكون إلى يوم الوعد المكنون)، وهو درة فريدة في بابه؛ إذ حوى من المعارف التاريخية وأسرار سير الأولين والمتأخرين ما تعجز عن خطه أقلام العلماء الراسخين والأئمة الواصلين، والثابت لدينا أنه من قبيل الفتح اللدُنّي والإلهام الكشفي؛ إذ يعرف قارئه بمقتضاه ما حدث وما يحدث (إلى هنا و يتوقف القلم خشية الانزلاق إلى الكبائر بعد اللَمَم).
وقد رأينا أن نكتفي منه بما تيسرت لنا الإحاطة به، من بدء ولادة المكابد الصابر والمبتلى الشاكر، الشيخ "صادق بسيسة" الذي يكفيه شرفاً أن يكون اسمه مشتقاً من اسم مولانا الأكبر، وقد رأينا أن في ذلك الكفاية، من حيث إن كثيراً من أهل التصنيف وكُتّاب التواريخ كانوا قد سبقونا إلى تأريخ أحداث الدنيا منذ خلق "آدم" عليه السلام، وما كان من عصيانه وهبوطه إلى دار الفناء والبلاء، مرورا بتواريخ الأمم الغابرة وسير الأولين والصالحين، فلم نُرِد أن نكرر ما سبقنا إليه المتقدمون، ورأينا مبتغانا في أن نسوق للمتأخرين ما فيه العظة والمُزدَجر من تراجم المحدثين الذين نالتهم فيوض من بركة "سيدي بسيسة". ]
يلي ذلك تآكل في الرق واختلاط في المداد، على نحوٍ يصعب معه الحصول على معنى مترابط، فيما عدا سطر واحد أشار إلى مكان مجلد، زعم كاتب الرق أنه النسخة الوحيدة المتبقية التي سطرها آخر فرد من أفراد "آل بسيسة"، اعتماداً على ما تبقى في ذاكرته من سيرتهم، وما اطلع عليه في الكتب المذكورة سابقاً، قبل أن يحرقها خشية أن تقع في يد من لا يستحق.
وحين عثرنا على المجلد، وجدناه مغلفاً بغلاف عُنوِن بعنوان لأحد مصنفات التصوف، وموضوعاً ضمن الكتب العديدة المحيطة بقبر "سيدي بسيسة" المكسو بالحرير الأخضر.
عام 1896
1
تحسست "ستوتة" ملمس الطلاء الجيري المتشقق بأناملها المصبوغة بحناء بهت لونها. أخذت تمر بكفيها على الجدار الطيني المغطى بطبقة من الكلس المتآكل التي كشفت عنها شقوق الطلاء، لتبين حفراً وأخاديد ونتوءات تغزل وشماً عتيقاً على الحائط الخارجي لضريح "سيدي بسيسة".
كان الضريح يقبع متوحداً، محاطاً بفضاء شاسع من الأرض المنزرعة، التي لا يقطع استرسالها سوى خط مرتعش رمادي اللون، يرسم على استحياء هياكل البيوت الطينية شرقي البلد، يقابله من الغرب - وبنفس القدر من البعد الشاسع عن الضريح – نقاط بيضاء متراصة، تبدو لعين الغريب كتجمعات أبي قردان على رؤوس الحقول، بينما تتوجه إليها عيون أهل البلد، حين تَحِنُّ الذكرى للراحلين إلى غير رجعة، ويتدفق الوفاء على الألسنة مشفوعاً بقراءة الفاتحة.
المَعلَم الوحيد الذي ارتبط بضريح "سيدي بسيسة" واقترب منه، إلى درجة اعتباره جزءاً ممتداً من كيانه، كان بئر الساقية العتيقة، التي تقع على مرمى حجر من الضريح، و\التي توقفت منذ زمن غير معلوم عن ممارسة دورها الاعتيادي في سُقيا الأرض، متحولةً إلى سبيل موقوف على ضريح "سيدي بسيسة" وزواره، فاكتسبت مع الزمن لقب "ساقية سيدي بسيسة".
لم يكن أحد من أهل البلد يعلم متى بثني ضريح "سيدي بسيسة"، ولم يكن أحد يعلم من هو "سيدي بسيسة " على وجه التحقيق، وبرغم تعدد الأذهان المعمرة التي تحكي قصصاً عن أصل كل شيء في البلد، وبرغم الذخيرة الجاهزة دوماً لتفسير كل شيء في الكون – بداية من كيفية الخلق نفسها وانتهاءً بأسباب إنفاذ إيطاليا لمن ينوب عنها في عقد وفاق الصلح مع النجاشي "منيلك" على أثر الحروب الأخيرة – إلا أن الجميع قد عجزوا عن إبداء أية تفسيرات بشأن الأسباب التي دفعت الأجداد لتبجيل "سيدي بسيسة" على هذا النحو، وتنصيبه وَلِياً حامياً للبلد، وواسطة عقد لتخطيطها المعماري الدنيوي والأخروي، ومركزاً عتيداً لاستقبال شكاوى أهل البلد ومخاوفهم وآمالهم المشكوك بتحققها.
غاية ما يعرفه الجميع أن ضريح "سيدي بسيسة" هو مستقر أقوى الأسرار الروحية في زمام البلد والقرى المحيطة بها؛ إلى الحد الذي جعل من مولده السنوي موعداً منتظماً لالتقاء الآلاف من سكان البلد والوافدين عليها، حاملين نذوراً تعكس تباينات طبقية واسعة المدى. والأغلب أن هذه الأسرار الروحية هي ذاتها التي تسببت في منع حكماء البلد من تلفيق أية حكايات مكذوبة عن أصل "سيدي بسيسة" خوفاً من بطشه، مكتفين بالحكايات المتواترة عن معجزاته وكراماته التي خبرها الكثيرون على مر السنين، والأغلب أيضاً أنها هي السبب في عدم الاجتراء على تناول المبنى الصغير للضريح بالتعديل أو الإضافة – برغم سخاء النذور والهِبات – إلا في حالات الضرورة القصوى التي يفرضها تصدع واضح في أحد الجدران، أو انهيار أجزاء من القبة الخضراء بفعل توالي الشمس والأمطار، أو انهيار قمة بئر الساقية لأي سبب من الأسباب، فاقتصرت علامات السخاء على تكدس أفخر الأنواع من أوشحة الحرير الأخضر و الأبيض، التي تكسو القبر باديةً للعيان من شبابيك الضريح الأربع، محاطةً بعشرات المصاحف الفاخرة الواردة من رحلات الحج التي لا يستطيع سوى الأغنياء إليها سبيلاً، مسجلين امتنانهم بالعودة من الرحلة الخطيرة، التي كانت تتم على ظهور الجمال. إلا أن أفخر الذخائر التي تمتع بها ضريح "سيدي بسيسة" وأكثرها قداسة كانت قطعة صغيرة من كسوة الكعبة، قدمها "حيدر نامق باشا" حين أعيته الحيلة في شفاء الشلل الذي ألَمَّ بنصفه الأيسر، فنصحه البعض بزيارة "سيدي بسيسة" والنذر له والاغتسال من ماء الساقية. وبرغم وفاة "حيدر نامق باشا" بعد فترة وجيزة من زيارته لضريح "سيدي بسيسة"، إلا أن قطعة الكسوة المقدسة ظلت دليلاً دامغاً على تفوق "سيدي بسيسة" على أقرانه من أولياء القرى المجاورة، و مثاراً لفخر البلد، وعنواناً على قيمتها وثقلها الاعتباري بين هذه القرى.
طافت "ستوتة" بجدران الضريح وهي تواصل تحسس الملمس الجيري ذي الأخاديد، فأخذت تتداعى على ذهنها ذكريات طفولتها، حين كانت تداعب جدها الطاعن في السن، متحسسةً الأخاديد العميقة في تجاعيد وجهه، وهو يحكي لها قصصاً أسطورية عن كرامات و معجزات "سيدي بسيسة" التي جبرت خواطر المكسورين والحزانى.
كانت "ستوتة" وهي تطوف بالضريح ملتصقة بجداره المتآكل تتقلب في أحاسيس شتى من الجزع اليائس والأمل الواثق في كرامات الولي العتيد، ومع تكرار طوافها الملتصق بالبناء المتآكل، أتت عليها لحظة من الزمن غير محددة الطول، فقدت فيها اتصالها بكل ما يحيط بها من فضاء البلد الشاسع بمزروعاته الممتدة، فلم تعد تشعر بخفق الهواء في ثنايا حبَرَتها السوداء، ولا بصوت الحدأة التي تحوم قريباً في انتظار سنوح فرصة القنص. كل ما كانت تعيه حواس "ستوتة" هو ملمس الشقوق الطينية، وتوالي التغيرات في انحناء و بروز جدار الضريح، وتعاقب نوبات الأمل بخروجها إلى الجانب المضيء المواجه للشمس من الضريح، وانقضاض نوبات اليأس بدخولها في منطقة الظل بالجانب الآخر.
- والنبي يا "سيدي بسيسة"، وحياة مقامك الطاهر والنبي.... تجبر بخاطري وما تردنيش مكسورة.... والنبي يا "سيدي بسيسة" و النبي، حتة عيل يبرد ناري يثبت قدمي في دار جوزي ويكسف عوازلي.
- والنبي يا "سيدي بسيسة"، وحياة الكسوة الطاهرة اللي مشرفة مقامك الطاهر... حتة عيل وأنا قابلة به ولو يكون فيه علة، كله حلو منك يا "سيدي بسيسة" ولو يكون أعمى ولو يكون أعرج.... والنبي يا "سيدي بسيسة".
- ورحمة النبي "محمد" يا "سيدي بسيسة" إن ربنا جبر بخاطري بولد لاسميه "بسيسة" على إسمك، واوهبه لخدمة القرآن والعلم الشرعي... والنبي يا "سيدي بسيسة".
صرخت الحدأة وهي تنقض على أحد جرذان الحقل. انتفضت "ستوتة" لترمق الحدأة وللحظة خاطفة خيل إليها أنها رسمت بامتداد جناحيها الخافقين شكلاً مصغراً لحَبَرتها السوداء، وتناهى إلى سمعها صرير عتيق من أخشاب الساقية، غير أنه بدا لدهشتها كما لو كان صادراً من داخل الضريح نفسه.
*******
مولد سيدي بسيسة
رواية
د. ياسر منجي
دار هلا للنشر و التوزيع
6 شارع الدكتور حجازي، الصحفيين – الجيزة – جمهورية مصر العربية.
تليفون: 33041421 (202)
فاكس: 33449139 (202)
الموقع الإلكتروني: http://www.halapublishing.net/
البريد الإلكتروني: hala@halapublishing.net
مدير التسويق: hazim@halapublishing.net
Moulid Sedi Bseesa
Yasser Mongy
Hala Publications
6 Dr. Higazi st, ElSahafieen, Giza, Cairo, Egypt.
Tel: (202) 33041421
Fax: (202) 33449139
Web:
http://www.halapublishing.net/
E-mail:
hala@halapublishing.neMarketing Director: hazim@halapublishing.net
وُجِدَت العبارات الآتية مكتوبة بمداد أحمر، على رق مطوي ومحشور في شق بأحد الألواح الخشبية العتيقة السبعة، التي كانت تدعم سقف ضريح "سيدي بسيسة"، وذلك عقب هدم السقف القديم لاستبداله بآخر من الخرسانة المسلحة:
[،أما بعد
فهذه خلاصة مما تناهى إلينا ووقعنا عليه من تاريخ العارف الأكبر والكبريت الأحمر ومسك العلوم الأزفر، سيدي الشيخ "بسيسة" دفين "أرض الزغل".
وكنا قد تحصلنا على ترجمته بخط محسوبه وتلميذه وخادم ضريحه، [ساقط في الأصل]، غفر الله له نفعه ببركة مخدومه آمين.
وعلى هامشه كتاب (الدرة النفيسة في مآثر مولاي بسيسة)، وأكثره ساقط للأسف، وأغلب ظننا أنه بفعل جهل الجاهلين وحسد الحاسدين.
ويليه كتاب (ما كان من أمر الدنيا وما يكون إلى يوم الوعد المكنون)، وهو درة فريدة في بابه؛ إذ حوى من المعارف التاريخية وأسرار سير الأولين والمتأخرين ما تعجز عن خطه أقلام العلماء الراسخين والأئمة الواصلين، والثابت لدينا أنه من قبيل الفتح اللدُنّي والإلهام الكشفي؛ إذ يعرف قارئه بمقتضاه ما حدث وما يحدث (إلى هنا و يتوقف القلم خشية الانزلاق إلى الكبائر بعد اللَمَم).
وقد رأينا أن نكتفي منه بما تيسرت لنا الإحاطة به، من بدء ولادة المكابد الصابر والمبتلى الشاكر، الشيخ "صادق بسيسة" الذي يكفيه شرفاً أن يكون اسمه مشتقاً من اسم مولانا الأكبر، وقد رأينا أن في ذلك الكفاية، من حيث إن كثيراً من أهل التصنيف وكُتّاب التواريخ كانوا قد سبقونا إلى تأريخ أحداث الدنيا منذ خلق "آدم" عليه السلام، وما كان من عصيانه وهبوطه إلى دار الفناء والبلاء، مرورا بتواريخ الأمم الغابرة وسير الأولين والصالحين، فلم نُرِد أن نكرر ما سبقنا إليه المتقدمون، ورأينا مبتغانا في أن نسوق للمتأخرين ما فيه العظة والمُزدَجر من تراجم المحدثين الذين نالتهم فيوض من بركة "سيدي بسيسة". ]
يلي ذلك تآكل في الرق واختلاط في المداد، على نحوٍ يصعب معه الحصول على معنى مترابط، فيما عدا سطر واحد أشار إلى مكان مجلد، زعم كاتب الرق أنه النسخة الوحيدة المتبقية التي سطرها آخر فرد من أفراد "آل بسيسة"، اعتماداً على ما تبقى في ذاكرته من سيرتهم، وما اطلع عليه في الكتب المذكورة سابقاً، قبل أن يحرقها خشية أن تقع في يد من لا يستحق.
وحين عثرنا على المجلد، وجدناه مغلفاً بغلاف عُنوِن بعنوان لأحد مصنفات التصوف، وموضوعاً ضمن الكتب العديدة المحيطة بقبر "سيدي بسيسة" المكسو بالحرير الأخضر.
عام 1896
1
تحسست "ستوتة" ملمس الطلاء الجيري المتشقق بأناملها المصبوغة بحناء بهت لونها. أخذت تمر بكفيها على الجدار الطيني المغطى بطبقة من الكلس المتآكل التي كشفت عنها شقوق الطلاء، لتبين حفراً وأخاديد ونتوءات تغزل وشماً عتيقاً على الحائط الخارجي لضريح "سيدي بسيسة".
كان الضريح يقبع متوحداً، محاطاً بفضاء شاسع من الأرض المنزرعة، التي لا يقطع استرسالها سوى خط مرتعش رمادي اللون، يرسم على استحياء هياكل البيوت الطينية شرقي البلد، يقابله من الغرب - وبنفس القدر من البعد الشاسع عن الضريح – نقاط بيضاء متراصة، تبدو لعين الغريب كتجمعات أبي قردان على رؤوس الحقول، بينما تتوجه إليها عيون أهل البلد، حين تَحِنُّ الذكرى للراحلين إلى غير رجعة، ويتدفق الوفاء على الألسنة مشفوعاً بقراءة الفاتحة.
المَعلَم الوحيد الذي ارتبط بضريح "سيدي بسيسة" واقترب منه، إلى درجة اعتباره جزءاً ممتداً من كيانه، كان بئر الساقية العتيقة، التي تقع على مرمى حجر من الضريح، و\التي توقفت منذ زمن غير معلوم عن ممارسة دورها الاعتيادي في سُقيا الأرض، متحولةً إلى سبيل موقوف على ضريح "سيدي بسيسة" وزواره، فاكتسبت مع الزمن لقب "ساقية سيدي بسيسة".
لم يكن أحد من أهل البلد يعلم متى بثني ضريح "سيدي بسيسة"، ولم يكن أحد يعلم من هو "سيدي بسيسة " على وجه التحقيق، وبرغم تعدد الأذهان المعمرة التي تحكي قصصاً عن أصل كل شيء في البلد، وبرغم الذخيرة الجاهزة دوماً لتفسير كل شيء في الكون – بداية من كيفية الخلق نفسها وانتهاءً بأسباب إنفاذ إيطاليا لمن ينوب عنها في عقد وفاق الصلح مع النجاشي "منيلك" على أثر الحروب الأخيرة – إلا أن الجميع قد عجزوا عن إبداء أية تفسيرات بشأن الأسباب التي دفعت الأجداد لتبجيل "سيدي بسيسة" على هذا النحو، وتنصيبه وَلِياً حامياً للبلد، وواسطة عقد لتخطيطها المعماري الدنيوي والأخروي، ومركزاً عتيداً لاستقبال شكاوى أهل البلد ومخاوفهم وآمالهم المشكوك بتحققها.
غاية ما يعرفه الجميع أن ضريح "سيدي بسيسة" هو مستقر أقوى الأسرار الروحية في زمام البلد والقرى المحيطة بها؛ إلى الحد الذي جعل من مولده السنوي موعداً منتظماً لالتقاء الآلاف من سكان البلد والوافدين عليها، حاملين نذوراً تعكس تباينات طبقية واسعة المدى. والأغلب أن هذه الأسرار الروحية هي ذاتها التي تسببت في منع حكماء البلد من تلفيق أية حكايات مكذوبة عن أصل "سيدي بسيسة" خوفاً من بطشه، مكتفين بالحكايات المتواترة عن معجزاته وكراماته التي خبرها الكثيرون على مر السنين، والأغلب أيضاً أنها هي السبب في عدم الاجتراء على تناول المبنى الصغير للضريح بالتعديل أو الإضافة – برغم سخاء النذور والهِبات – إلا في حالات الضرورة القصوى التي يفرضها تصدع واضح في أحد الجدران، أو انهيار أجزاء من القبة الخضراء بفعل توالي الشمس والأمطار، أو انهيار قمة بئر الساقية لأي سبب من الأسباب، فاقتصرت علامات السخاء على تكدس أفخر الأنواع من أوشحة الحرير الأخضر و الأبيض، التي تكسو القبر باديةً للعيان من شبابيك الضريح الأربع، محاطةً بعشرات المصاحف الفاخرة الواردة من رحلات الحج التي لا يستطيع سوى الأغنياء إليها سبيلاً، مسجلين امتنانهم بالعودة من الرحلة الخطيرة، التي كانت تتم على ظهور الجمال. إلا أن أفخر الذخائر التي تمتع بها ضريح "سيدي بسيسة" وأكثرها قداسة كانت قطعة صغيرة من كسوة الكعبة، قدمها "حيدر نامق باشا" حين أعيته الحيلة في شفاء الشلل الذي ألَمَّ بنصفه الأيسر، فنصحه البعض بزيارة "سيدي بسيسة" والنذر له والاغتسال من ماء الساقية. وبرغم وفاة "حيدر نامق باشا" بعد فترة وجيزة من زيارته لضريح "سيدي بسيسة"، إلا أن قطعة الكسوة المقدسة ظلت دليلاً دامغاً على تفوق "سيدي بسيسة" على أقرانه من أولياء القرى المجاورة، و مثاراً لفخر البلد، وعنواناً على قيمتها وثقلها الاعتباري بين هذه القرى.
طافت "ستوتة" بجدران الضريح وهي تواصل تحسس الملمس الجيري ذي الأخاديد، فأخذت تتداعى على ذهنها ذكريات طفولتها، حين كانت تداعب جدها الطاعن في السن، متحسسةً الأخاديد العميقة في تجاعيد وجهه، وهو يحكي لها قصصاً أسطورية عن كرامات و معجزات "سيدي بسيسة" التي جبرت خواطر المكسورين والحزانى.
كانت "ستوتة" وهي تطوف بالضريح ملتصقة بجداره المتآكل تتقلب في أحاسيس شتى من الجزع اليائس والأمل الواثق في كرامات الولي العتيد، ومع تكرار طوافها الملتصق بالبناء المتآكل، أتت عليها لحظة من الزمن غير محددة الطول، فقدت فيها اتصالها بكل ما يحيط بها من فضاء البلد الشاسع بمزروعاته الممتدة، فلم تعد تشعر بخفق الهواء في ثنايا حبَرَتها السوداء، ولا بصوت الحدأة التي تحوم قريباً في انتظار سنوح فرصة القنص. كل ما كانت تعيه حواس "ستوتة" هو ملمس الشقوق الطينية، وتوالي التغيرات في انحناء و بروز جدار الضريح، وتعاقب نوبات الأمل بخروجها إلى الجانب المضيء المواجه للشمس من الضريح، وانقضاض نوبات اليأس بدخولها في منطقة الظل بالجانب الآخر.
- والنبي يا "سيدي بسيسة"، وحياة مقامك الطاهر والنبي.... تجبر بخاطري وما تردنيش مكسورة.... والنبي يا "سيدي بسيسة" و النبي، حتة عيل يبرد ناري يثبت قدمي في دار جوزي ويكسف عوازلي.
- والنبي يا "سيدي بسيسة"، وحياة الكسوة الطاهرة اللي مشرفة مقامك الطاهر... حتة عيل وأنا قابلة به ولو يكون فيه علة، كله حلو منك يا "سيدي بسيسة" ولو يكون أعمى ولو يكون أعرج.... والنبي يا "سيدي بسيسة".
- ورحمة النبي "محمد" يا "سيدي بسيسة" إن ربنا جبر بخاطري بولد لاسميه "بسيسة" على إسمك، واوهبه لخدمة القرآن والعلم الشرعي... والنبي يا "سيدي بسيسة".
صرخت الحدأة وهي تنقض على أحد جرذان الحقل. انتفضت "ستوتة" لترمق الحدأة وللحظة خاطفة خيل إليها أنها رسمت بامتداد جناحيها الخافقين شكلاً مصغراً لحَبَرتها السوداء، وتناهى إلى سمعها صرير عتيق من أخشاب الساقية، غير أنه بدا لدهشتها كما لو كان صادراً من داخل الضريح نفسه.
*******
مولد سيدي بسيسة
رواية
د. ياسر منجي
دار هلا للنشر و التوزيع
6 شارع الدكتور حجازي، الصحفيين – الجيزة – جمهورية مصر العربية.
تليفون: 33041421 (202)
فاكس: 33449139 (202)
الموقع الإلكتروني: http://www.halapublishing.net/
البريد الإلكتروني: hala@halapublishing.net
مدير التسويق: hazim@halapublishing.net
Moulid Sedi Bseesa
Yasser Mongy
Hala Publications
6 Dr. Higazi st, ElSahafieen, Giza, Cairo, Egypt.
Tel: (202) 33041421
Fax: (202) 33449139
Web:
http://www.halapublishing.net/
E-mail:
hala@halapublishing.neMarketing Director: hazim@halapublishing.net